الثورة غير الإصلاح. الإصلاح تفويت للثورة، وفي الحدّ الأدنى إرجاء لها. هذا هو ألف باء السياسة، وهذه هي القاعدة الحاكمة عند طلب التغيير، وهذا ما تقوله تجارب التغيير التي حدثت (أو ستحدث) في غير مكان وزمان في العالم. أما في لبنان، فإن طلب الإصلاح من طلب الثورة إن لم يكن أكثر. والداعون إلى الإصلاح، أيّ إصلاح، بمعزل عن حجمه أو نطاقه، مَثلهم كمَثل المحرّضين على الثورة أو العاملين على إشعالها.والأرجح أن الياس سابا لم يكن بعيداً عن هذا الفهم وتلك الإحاطة. لكنّ الرجل آثر سلوك أطول الدروب وأعقدها، وهو الدرب الذي قاده إلى الأخذ بخيارات أخرى تقول إنه حين تستحيل الثورة ويمتنع الإصلاح، فلا مخرج غير الإصرار على... الإصلاح. وأسبابه في ذلك ربما كانت تكمن في قناعته الخاصة بأن البديل اللبناني الوحيد المتاح، في حال الإصرار على التغيير، هو الحرب الأهلية! وهو ما افترض أن من شأنه، وربطاً بمعرفته بخبث الفكرة التي أسّست للكيان والتجارب التي رافقته، أن يفاقم الاختلالات بدلاً من أن يعالجها، ويعمّق الأزمات عوضاً عن حلّها، هذا إن لم يطح بكامل البنيان المصطنع. وهذا أكثر ما كان يخشاه، لا تمسّكاً بهذا الكيان الممقوت بقدر ما كان خوفاً من استفحال التجزئة وأشكال التذرّر التي سبق لها أن قسّمت العالم العربي وأحالته إلى دويلات منافية للتاريخ الواحد، كما للجغرافيا الواحدة... فضلاً عن غيرها من المشتركات الكثيرة الأصيلة.
ومع ذلك، فإن إصراره على وجوب الإصلاح وحتميته لم يتقاطع، وإن لم يتعارض أيضاً، مع إدراكه العميق لحاجة «البلد» إلى ثورة خاصة. ثورة تطيح بكل ما تراكب من عفن، وتفشّى من كوارث، واستفحل من أزمات. لكنه مع ذلك بقي محافظاً على مقاربته الخاصة، وهي المقاربة التي قادته إلى الإصرار على أن الأولوية تبقى للإصلاح الذي لا يحبطه الفشل، ولا تستنفده مشقّة الخيار ولا تعطّله الاستحالات وما أكثرها. ومع إدراكه لصعوبات الإصلاح وأكلافه الباهظة، والتي يمكن أن تتجاوز أكلاف الثورة الممكنة أو المتاحة، بدليل ما آلت إليه أوضاع البلد من تردٍّ شبه شامل، فإن الرجل لم يغيّر في قناعاته الداعية إلى... الإصلاح والرهان عليه والإيغال في الدعوة إليه.
وبرغم كل ما قيل أو يمكن أن يقال، فإن حجّة سابا، في إصراره على سلوك درب الإصلاح الموصد، لم تكن بلا وجاهة. فالمستحيل اللبناني الذي نذر نفسه لتخطّيه عبر رهان الإصلاح، ترك غير بصمة يمكن للآخرين البناء عليها سلباً وإيجاباً إذا ما أرادوا التصدي للمهمة النبيلة التي اعتبر أنها قد تكون أضعف الإيمان الذي لا بد منه، وهي كانت فعلاً كذلك.
يرحل الياس سابا صاحب السيرة السياسية الغنية بالبدائل النظرية والثقافية من غير أن يفوته الاعتراف، المتأخر، بحقيقة أن تعذّر الإصلاح اللبناني من تعذّر الثورة، وكلاهما مستحيل غربي مهيمن. وهو ما وشت به المرارة التي طبعت حواراته الأخيرة وعبّرت عنه. كما لم يفته، سابقاً، إدراك أن معارك الإصلاح التي طبعت مسيرته وظلّلت محطات حياته، لم تكن بالسهولة الخادعة التي قد يكون تصورها في بدء حياته العامة. إلا أن خشيته التي لم تفارقه يوماً من البدائل الجهنمية المطروحة، أرغمته على مواصلة عناد إصلاحي ربما لم يكن يملك غيره، كما لم يكن بالنسبة له من بد.
برحيل سابا تطوى صفحة من صفحات النزاهة والشجاعة والاستقامة والوعي الوطني والقومي التي يصعب أن تتكرر في «بلد» لا يمكن وصفه إلا بأنه منذور للغرائز البدائية، ولا جدال في أن لا أمل منه ولا رجاء له. فالمشكلة التي أدركها سابا، متأخراً بعض الشيء، تكمن في الأصل التكويني، وهذا الأصل منافٍ للسويّة السياسية والثقافية والاجتماعية... المؤهلة بالتالي لسويّة الاجتماع وضرورته. لكن المحزن الإضافي في رحيل سابا هو تكالب الناعين السياسيين والإعلاميين له، وهم بمعظمهم - حتى لا نقول كلهم - لا يمتّون إلى الرجل بأي صلة، لا أخلاقية ولا وطنية ولا قومية ولا غيرها من الصفات والقيم التي حملها أو تمتّع بها، والتي كانت من الوفرة بحيث فاضت في كل المواقع التي شغلها أو المناصب التي تقلّدها أو الحيّز الذي عرفه.
الياس سابا الإصلاحي حتى العظم عاش للإصلاح، لكنه في وجدانه العميق آمن بالتغيير وضرورته.
يرحل الياس سابا وفي قلبه غصّة على «البلد» والناس. غصّة أفلتت منه في واحد من حواراته الأخيرة. وبغيابه تطوى صفحة مشرقة من صفحات العمل السياسي في لبنان.
يبقى أن على المخلصين الذين حرّروا وتحرّروا أن يعوا أن الثورة الحقيقية ممكنة وربما مضمونة. أما الإصلاح... فمستحيل!