بينما تتكثّف مساعي الوساطة العُمانية في ما بين واشنطن وطهران، في محاولة للتوصّل إلى اتّفاق مؤقّت في شأن برنامج إيران النووي، عوض اتفاق شامل بات واضحاً تعذّره، تتوجّس تل أبيب من إمكانية تحقّق سيناريو من هذا النوع، ستكون عائداته، من وجه نظرها، طيّبة للجمهورية الإسلامية وسيّئة لخصومها. وإذ يبدأ وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، ومستشار الأمن القومي، تساحي هنغبي، زيارة إلى البيت الأبيض اليوم، للوقوف على حقيقة ما تسعى إليه الولايات المتحدة، تتصاعد مخاوف دولة الاحتلال من صفقة تكرّس وضع إيران كدولة عتبة نووية، وتتيح لها النهوض اقتصادياً، والأهمّ تعزيز قدراتها وقدرات حلفائها في المنطقة
تؤشّر تحذيرات قادة المنظومة الأمنية والسياسية في كيان العدو، والتي توالت في «مؤتمر هرتسيليا» قبل أيام، إلى إقرار رسمي جمعي، يشمل المستويَين السياسي والأمني، بأن إيران فرضت نفسها كقوّة نووية في المنطقة، وبأن الأسئلة المطروحة تتمحور فقط حول المسافة التي تفصل طهران عن نقطة الصفر، والتي هي في الواقع ليست إلّا قراراً يَصدر عن قيادتها العليا. وتأتي المساعي العلنية والسرّية القائمة راهناً، في محاولة للتوصّل إلى ما يقال إنه «اتّفاق مؤقّت» بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية، لتُعظّم المخاوف الإسرائيلية من أحد أبرز السيناريوات المُقلقة وغير المفاجئة في آن، وعنوانه أنْ تنتقل واشنطن إلى مستوى من التكيّف مع التموضع الإيراني النووي الجديد، مع ما يحمله ذلك من رسائل تتّصل بالدوائر الثلاث، الإسرائيلية والإقليمية والدولية.
وبمعزل عمّا ستؤول إليه تلك المساعي، فإن ما يميّز المواقف الإسرائيلية المرافقة لها، عمّا سبقها في السنوات الماضية، هو أنها حالياً ليست جزءاً من خطاب تهويلي يهدف إلى تصويب الأنظار على الخطر النووي الإيراني (وان كانت هذه السياسة دائمة)، وإنّما تستند أيضاً إلى تقارير وتقديرات أميركية رسمية تؤكّد أن إيران باتت على مسافة «قرار» من إنتاج السلاح النووي. وبحسب تعبير وزير الأمن، يوآف غالانت، خلال كلمته في «مؤتمر هرتسيليا»، فإن القطار النووي الإيراني يكاد يدخل نفقاً محفوراً في جبل لن يعود بالإمكان بعده ضربه عسكرياً - لو نجح في ذلك -، وعندما يخرج هذا القطار من الجهة الأخرى من النفق، «سيكون العالم كلّه أمام تهديد استراتيجي خطير، وستكون إسرائيل أمام احتمال تهديد وجودي».
استمرار الاتّجاهات الحالية يعني التدحرج نحو وضع أكثر إشكالية نووياً وإقليمياً ودولياً


وبقدر من التفصيل، يتموضع البرنامج النووي الإيراني في المرحلة الأكثر تقدّماً في تاريخه. فوفقاً للتقرير الأخير لـ«الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، لدى الجمهورية الإسلامية اليوم ما يكفي من كمّيات اليورانيوم المخصّب على درجة عالية (20%-60%) لصنع خمس قنابل نووية، وهي إذا ما قرّرت التخصيب على درجة عسكرية، أي 90%، فإن هذه العملية ستستغرق بضعة أيام. ومِن بَعدها، ستكون قادرة على الحصول على سلاح نووي بصورة بدائية خلال أشهر فقط، وفق ما يعتقده رئيس الأركان المشتركة الأميركية، مارك ميلي. وفي مواجهة ذلك التحدّي، فإن أكثر ما يُقلق إسرائيل، هو أن تجد الولايات المتحدة نفسها ملزَمة بالتعامل مع هذا الواقع وفق مجموعة محدّدات، بدءاً من الظرف الدولي الكابح، وصولاً إلى معادلات القوة التي تستند إليها طهران ذاتياً وإقليميّاً. ويرتفع منسوب استشعار الخطر في الكيان، من حقيقة إدراك قادة الجمهورية الإسلامية أنهم أمام فرصة غير مسبوقة منذ عقود للتقدّم إلى الأمام على أكثر من مستوى، فضلاً عن استنفاد واشنطن وتل أبيب الكثير من الخيارات البديلة لردع طهران عن مواصلة تطوير برنامجها، وفشلهما في محاولات إحباط تقدّمه، على رغم الضربات الأمنية الناجحة تكتيكياً، ولكن المحدودة التأثير على مجمل المسار.
وتنبئ المساعي الأميركية المستجدّة، وفق المنظور الإسرائيلي، بأن الولايات المتحدة ليست بصدد تشديد منظومة العقوبات والضغوط على إيران من أجل وقف تقدُّم الأخيرة النووي، وهو ما يُعزى إلى تمكّن طهران من فرض معادلة عنوانها: «النووي يدافع عن نفسه»، والتي تعني رفع التخصيب إلى درجة 90%، في حال اتّخاذ قرارات وخطوات دولية حادّة ضدّ الجمهورية الإسلامية، وربّما إقدام الأخيرة على خطوات ذات تأثير دراماتيكي على المصالح الإسرائيلية والأميركية في المنطقة، إذا ما تجاوزت تلك القرارات سقوفاً معيّنة. وعلى رغم هذه المخاطر، إلّا أنه من غير المتوقّع أن توافق إسرائيل على أيّ اتّفاق مؤقّت أو غير مؤقّت يكرّس تموضع إيران كدولة عتبة نووية ويشرعنه، خاصة وأن العوامل الدافعة إلى ذلك الخيار، سواءً لجهة التطوّرات الدولية أو معادلات القوّة الإيرانية والإقليمية، ليست ظرفية، وأن أيّ اتفاق من هذا النوع، سيُعزِّز وضع إيران الاقتصادي، ويؤكّد صوابية خيارات نظامها أمام جمهوره.
وإذ تعتقد إسرائيل أن أيّ اتفاق مع إيران حالياً لن يكون ثمنه خطوات «تراجعية» من قِبَلها، وإنّما عدم إقدامها على خطوات نووية إضافية، فهي تجد نفسها على مفترق طرق حاسم، أصبحت معه مضطرّة للبحث بين الخيارات على قاعدة الأقلّ خطورة، وربّما أيضاً على قاعدة كسب المزيد من الوقت ليس إلّا. وحتى في حال فشل المساعي الأميركية الراهنة لعقد اتفاق مع إيران، فليس ثمّة في تل أبيب مَن يرى أملاً جدّياً بإمكانية خوض واشنطن معركة تأخير البرنامج النووي الإيراني، فيما تفرّد تل أبيب بخيارات عمليّاتية سيكون محدود الجدوى، وخطيراً جدّاً على مستوى الكلفة، وأصلاً دونه الكثير من القيود. أمّا اعتماد سياسة «المزيد من الشيء نفسه»، فلن يحقّق أكثر من النتائج التي حقّقها سابقاً، بينما استمرار الاتّجاهات الحالية يعني التدحرج نحو وضع أكثر إشكالية نووياً وإقليمياً ودولياً.