بعيداً عن أشكال التمظهر اللاحق وألوانه، يمكن القول، إن لا فكرة من دون هدف، ولا هدف من دون فكرة. الهدف هو أصل الفكرة ورحمها الأول. ومنه وعنه تتفرّع ملامح القول السياسي وترتسم سمات الفعل الميداني. وكما أن لا فن للفن فلا فكرة للفكرة ولا هدف للهدف. وكل قول آخر كذب صريح، وهدفه إن لم يكن التضليل فلا أقل من التجهيل. وكما أن لا هدف من غير فكرة، فالأكيد أن لا فكرة نبيلة إن لم يكن الهدف كذلك. فنبل الفكرة من نبل الهدف. ومن اقترانهما تصاغ البرامج وتُصنع الوسائل القادرة على النهوض بالفكرة وتحقيق أهدافها.وعليه، فإن وسائل تحقيق الهدف النبيل لا يجب أن تنفصل عن الفكرة وإن ابتعدت. ابتعاد الوسائل لا يجرد الفكرة من نبلها. ما يجردها هو انفصالها عنه أو طلاقها منه. ومع ذلك، وبرغم كل ما تقدم، كثيراً ما يحدث لنبل الفكرة أن يحجب وضاعة الهدف. ويحدث أيضاً أن تكون الفكرة ذريعة لغايات نقيضة لا علاقة لها بالهدف المعلن، وهو مختصر حال «شيوعيين لبنانيين» وواقعهم. فهؤلاء الذين بدا لوهلة - على ما أعلنوا - أنهم مهتمون بتصويب البوصلة اليسارية، وإعادة توجيهها بما يليق ويتوافق مع نضالية الإرث اليساري ونبل أهدافه، لم يقدّموا حتى الساعة ما يُعتدّ به أو يُبنى عليه، لا لجهة الوضوح ولا لجهة الجذرية. وهذه وتلك أقل ما يمكن عمله بإزاء واقع الارتداد المشين والمخزي لما يسمى بـ«الحزب الشيوعي اللبناني». هذا الحزب الذي صار مع وصول من وصل من «شباب»، مجرد هيكل فارغ ومتداعٍ ورثّ. بل، وفي أحيان غير قليلة، غرفة صدى لما يصدر عن «اليمين الدولي» الذي نجح في إفراغه من أهله، وتأجيره غرفاً وأجنحة لمن يرغب من مأجوري «منظمات المجتمع المدني». بل إن جلّ ما قدّموه لا يعدو أن يكون اقتباسات فايسبوكية، وبهلوانيات يساروية لا معنى لها ولا سياق. الأمر الذي يقود إلى إضافة ذات صلة وهي أن نبل الفكرة وهدفها لا يتمان إن لم يقترنا بنبل حامليها أو الداعين إليها وإخلاصهم.
ومع ذلك، كان يمكن لتواضع ما قدّموه - ولو أنهم، في الواقع، لم يقدّموا شيئاً ذا نفع - أن يمر مرور الكرام من غير أن يثير إلا ما أثاره من شفقة أو لا مبالاة، وحالهم في ذلك من حال من سبقهم إلى التنطّح لأدوار مزعومة شبيهة، خصوصاً أن نبل الفكرة التي تدثّروا بها، وحاجة اللبنانيين إليها لم يخفيا حقيقة أنهم لا أقل من زمرة طاعنة و... طامعة بالحضور ليس إلا. كما لم يخف أن دافع أكثرهم «الفاعل»، حتى لا نقول كلهم، وعددهم على أي حال أقل من القليل، لا يتجاوز هدف إيجاد موطئ خبر، أو إطار صورة «تاريخية» مع سياسي وإعلامي من هنا أو سياسية وإعلامية من هناك.
فهؤلاء «الشيوعيون» الذين اكتفوا حتى البارحة بتدبيج «البيانات» الموسمية، والنوم على «حريرها» الموهوم، سارعوا، عبر وجيههم المعلوم، إلى اقتناص ما بدا له ولهم، وبعد مخاض البيانات العسير، بمثابة الفرصة الأمثل لإعلان الولادة السياسية المرتجاة. لكن بدلاً من بعض «الإبداع» الذي لا بد منه عند القول السياسي الجاد والمسؤول، اختاروا أردأ الصيغ الممكنة وأفقرها: وليمة بائسة لم تسترع انتباه أحد ربما غير من هم في دائرة الأقرباء وبعض الأصدقاء.
هل هي سقطة وحسب أم أنها أبعد من ذلك؟ الأرجح أنها هذه وتلك. فوضوح المرامي، أقله مرامي بعضهم، كان بادياً حتى من قبل الوليمة الفضيحة. لكن حسبهم التقاط الصورة «الفايسبوكية» أو «التويترية» وهذا بالنسبة إليه ولهم أكثر من كاف.
حاجة اليسار اللبناني الملحّة إلى الشفاء من أمراضه المستعصية والمزمنة، وتالياً الخروج من الهامشية القاتلة التي أطال المكوث فيها، لا تعني، ولا يجب أن تعني، القبول بأي دواء وخصوصاً حين يأتي من أفراد مصابين بدونية سياسية وثقافية واجتماعية موروثة وتتمظهر في سلوكياتهم العامة أكثر مما تتمظهر في سلوكياتهم الخاصة، أو من أفراد تحركهم الحسابات الضيقة المبتورة عن القدرة على الفهم أو الإدراك اللازمين. فالوليمة «الفاخرة» التي أريد لها أن تكون تعبيراً سياسياً له ما بعده قد كشفت حقيقة الإفلاس المعروف سلفاً، ولم تضف غير التأكيد عليها. وهي حقيقة لا تنفع معها ألاعيب الشعارات ولا حيل العناوين على نحو ما راج عقب الوليمة أو صاحبها من اعتداد موهوم بالنفس.
إنها مواسم التهريج اللبناني المألوف. وها هي مرة جديدة، قبل «الوليمة» وخلالها وبعدها، ووفقاً للروزنامة اللبنانية الدقيقة المزدحمة بمواعيد الابتذال، تطل برأسها، مع جديد «نوعي» و«لافت» يقدمه الاحتياطي السياسي والاقتصادي المزمن جهاد أزعور. فاللبنانيون، وعلى ما أظهرت الأيام كانوا قد ملّوا من فصول «ابن أمه» وتهريجه البائخ. ولو أنهم لن ينسوا له غيرته الفائقة على مهنة التهريج التي ربما وُلد لها. فهو لم يتوانَ عن سحب ترشيحه فور تبلغه بانتهاء «نمرته»، وسلّم لأزعور بأحقية الحلول محله في نمرة مستعادة قد توحي على الأقل بالفرق الشكلي، ولو أن اللبنانيين، بمعظمهم، يأملون ألا يطول مكوث هذا الأخير على المسرح الرئاسي الموهوم لسبب أكثر من وجيه، وهو أن الوقت اللبناني أثمن وأغلى وأعلى قيمة من أن يُضيَّع في الترهات البليدة، برغم أن مظاهر الانهيار العام ربما كانت تسمح بذلك.
في هذه الغضون، كان لافتاً بعض الشيء، أنه بالتزامن مع سيرك الحازمية الذي شهد فصل إذعان ابن أمه وتسليمه باستحالة استمراره في التهريج المملّ إياه، سجّلت الأخبار استذكار شيخ مشايخ المهرّجين اللبنانيين وكبيرهم لفلسطينيي الأرض المحتلة وتجشّمه، برغم تهالكه السياسي والأخلاقي والمعرفي والعمري، عناء ملاقاة وفد منهم في قبرص.
إنها، والحق يقال، مواسم التهريج التي تسبق الجد الذي لن يتأخر، ووليمة الوصوليين المارّ ذكرهم فصل صغير وتافه من فصولها التي تتوالى في الديار اللبنانية وصولاً إلى... قبرص وأبعد.
يبقى أن نأمل من «الاحتياطي» المذكور سابقاً، والذي وجد من ينفض الغبار عنه ألا يحطّ من شأن التهريج بالقدر الذي ارتكبه ابن أمه. فالأكيد أن التهريج فن حقيقي وصعب، ويبقى بالرغم من كل الانحطاط الذي صار إليه على أيدي هذا وذاك من منتحلي الصفة أو الدور الذين تناوبوا على تتفيهه فناً محترماً وله محبوه. فضلاً عن حقيقة أنه لا يستحق أن يبلغ القعر العميق الذي أوصلته إليه «نخبة» من «النجوم» الذين برهنوا ويبرهنون، يومياً، وعلى مدار الساعة، على انعدام الخيال وفقر الموهبة وإن كانوا وفيري الصلات و... الثروات المسروقة بطبيعة الحال.
ويبقى، أيضاً، أن نقول إنه وبالرغم من أن الجدال في نوع الملائكة وجنسهم ممنوع، فإن حق التعبير الذي تكفله القوانين والشرائع الأرضية والسماوية يعطي السفيه والسفيهة حق الكلام والتعبير فضلاً عن حق الترشيح والترشّح للمنصب اللبناني الأول، وله ولها في ذلك سوابق نيابية ووزارية ورئاسية معروفة يُبنى عليها، وآثارها واضحة وجليّة في وصول من وصل من «تغييريين» و«تغييريات».