تصوّر وزارة الخارجية لخفض نفقاتها، في ظل الأزمة، ارتكز بشكلٍ أساسي على تقليص النفقات التي تُحوّل بالدولار إلى الخارج كرواتب الدبلوماسيين وبدل الاغتراب، واستبدال دور السكن بأخرى أصغر حجماً وأقل كلفة، وإغلاق عددٍ من البعثات، وترشيق ملاكات أخرى، والتوقّف عن دفع الرواتب الملحوظة لـ«درجة فوق القمة». والإجراءان الأخيران أحدثا اعتراضاتٍ في صفوف الموظّفين الذين تقدّم بعضهم بدعاوى أمام مجلس شورى الدولة، ردّ منها اثنتين، ولا تزال خمس قيد النظر.ففي تعميمٍ داخلي، في آب 2022، طلبت «الخارجية» من البعثات الدبلوماسية والقنصلية التوقف بدءاً من 1/10/2022 عن دفع أي راتب ملحوظ لأي «درجة فوق القمة»، والاستعاضة عنه براتب الدرجة الأولى. و«درجة فوق القمة» هي زيادة على الراتب تُعطى كل سنتين للموظفين الذين يتدرّجون صعوداً من الدرجة السادسة إلى الأولى، ما يعني فرملة عملية تدرّج الموظفين عند حدود الدرجة الأولى. ويطاول القرار مئات العاملين في البعثات. إلا أن الأكثر تضرراً هم الأقدم في الملاك الذين خسروا حوالي 40% من قيمة رواتبهم، كما أن تعويضات نهاية الخدمة تتأثّر تلقائياً بهذا التعديل. لذلك، تقدّم موظفان في بعثة لبنان الدائمة في الأمم المتحدة في نيويورك (أمضيا أكثر من 25 عاماً في الخدمة)، وموظّفة في بعثة لبنان لدى «الأونيسكو»، بمراجعات أمام شورى الدولة، مطالبين بوقف تنفيذ تعميم «الخارجية» وإبطاله. واستندت الدعاوى وفق مصادر قضائية الى «مواد في قانون الموظّفين، تعتبر الدرجات الملغاة من الحقوق المكتسبة للموظّف»، وإلى اجتهاداتٍ لـ«الشورى» تؤكّد أن «احترام الحقوق المكتسبة للموظّف من المبادئ العامة للقانون، ويترتّب على مخالفتها إبطال الأعمال الإدارية المتأتية بنتيجتها».
وقبل أن يبتّ «الشورى» في المراجعات، تبلّغت موظّفتان (كاتبة ومحرّرة) في بعثة لبنان في نيويورك، في 13 آذار الماضي، قرار إنهاء خدماتهما بسبب إلغاء وظيفتيهما من الملاك. والموظفتان المستغنى عنهما هما زوجتا الموظّفين اللذين تقدّما بمراجعة أمام «الشورى» اعتراضاً على تخفيض الدرجات، ما عدّه أصحاب الشكوى «عملاً انتقامياً»، خصوصاً أن معيار «الخارجية» القائم على صرف الزوجة التي يعمل زوجها في البعثة نفسها لم يشمل كل أفراد البعثة.
وورد في متنَي الدعويين اللتين قدّمهما المحامي هشام شبيب أن القرار الموقّع من وزير الخارجية عبدالله بوحبيب والأمين العام للوزارة هاني شميطلي، بتعديل ملاك البعثة لجهة إلغاء الوظائف، «تجاوز حدّ السلطة، لكونه خالف المادة 57 من نظام مجلس شورى الدولة التي تنص على إلزامية استشارة المجلس في هكذا حالات». كما ذكّرت الدعوى بالمادة 24 من نظام الموظفين حول شروط صرف الموظفين من الخدمة، والتي لم تأت على ذكر إلغاء الوظيفة ضمن أسباب الصرف. وأشارت إلى المادة 70 من نظام الموظفين، ونصّها: «إذا ألغيت وظيفة في الملاك، وحُذفت الاعتمادات المخصّصة لها في الموازنة، يُنقل الموظف الذي كان يشغلها إلى وظيفة شاغرة أخرى في سلكه ورتبته وراتبه في الإدارة التي ينتسب إليها أو في إدارة أخرى، على أن تتوافر فيه شروط التعيين». مصادر قضائية، وصفت ما حصل بـ«البدعة القانونية»، وبالتهرب من اعتبار الصرف «مباشراً وتعسّفياً»، مع ما يترتّب عليه من موجبات.
«الخارجية»: ألغينا ممارسة غير سوية عمرها سنوات طويلة جعلت الراتب بلا حدود


وإلى المواد القانونية، تضمّ الدعوى تسجيلات صوتية لشميطلي، فحواها، وفق المصادر، «يثبت أن صرف الموظّفتين من الخدمة تعسفي رداً على عدم سحب زوجيهما الطعن في تخفيض الدرجات»، بقوله: «ستتفاجأ زوجة فلان وفلان بالقرار الذي سأتّخذه». واللافت أنّه رغم أن قرار الصرف من الخدمة يدخل حيّز التنفيذ ابتداءً من 1 حزيران لإحدى الموظفتين، ومن 7 حزيران لزميلتها، إلا أنّهما «مُنِعتا من مزاولة عملهما من تاريخ إبلاغهما بالقرار، أي في 13 آذار. فأُقفل مكتباهما وأُجبِرتا على تسليم المفاتيح».
وفي دمشق، كما في نيويورك، قدّم موظفان عاملان في سفارة لبنان لدى سوريا مراجعتين أمام «الشورى» لوقف تنفيذ قرار إلغاء وظيفتيهما وإنهاء خدماتهما وإبطاله.
مصادر في الخارجية أشارت إلى أنه «ليس هناك أساساً وجود لما يُعرف بالدرجات فوق القمّة في النظام الداخلي الذي يرعى الوضعية القانونية للموظفين اللبنانيين في البعثات في الخارج»، مشيرة إلى أن هذه «ممارسة غير سوية» درجت العادة على اتّباعها منذ سنوات طويلة، ومعها لم يعد للراتب من سقفٍ يحدّه، قبل أن تفرض الأزمة المالية المشتدّة على الوزارة «تصويب» المسار، واعتبار الدرجة الأولى هي السقف الأعلى للتدرّج والرواتب، احتكاماً للنظام الداخلي. وفي ما يتعلق بإلغاء الوظائف وترشيق الملاكات، أوضحت المصادر أنّ «الخارجية أعطت الأفضلية لموظفين لا تعمل زوجاتهم أو أي فرد آخر من العائلة ضمن البعثة الواحدة».
عملياً، ردّ «الشورى» طلبات وقف التنفيذ قرار خفض الدرجات، والبحث قائم في طلب الإبطال، كما تفيد المعلومات. وفي حال أبطل «الشورى» القرار، يحصل الموظفون على كامل حقوقهم، عن كل الأشهر التي تقاضوا خلالها راتباً أدنى قيمة مما يُفترض تقاضيه، فيما لو بقية رواتبهم تُحتسب وفق «درجات فوق القمة». كذلك ردّ طلب وقف التنفيذ والإبطال في المراجعتين المقدّمتين من موظّفَي البعثة في دمشق، بخصوص إلغاء وظيفتيهما، وإنهاء خدماتهما.
في المحصّلة لم تصدر قرارات نهائية بعد بشأن دعاوى نيويورك وفرنسا. وثمة من يلفت النظر إلى أن دعاوى (الدرجات)، رُفعت حصراً من قبل موظفي بعثتَي نيويورك وفرنسا. علماً أن علاقات تربط سفير لبنان السابق في نيويورك، نواف سلام، وزوجته رئيسة بعثة لبنان في «الأونيسكو» سحر بعاصيري، بمقدّمي الدعاوى، وهما كانا قد أبديا استياءهما من الإجراءات.



ثلاثة مواقف سيارات وفوضى
اطّلعت «الأخبار» على مراسلة من القنصل العام لقنصلية لبنان في نيويورك السفيرة عبير طه تطلب فيها صرف 900 دولار شهرياً، بدل استئجار موقف سيارة، ابتداءً من 2 أيلول 2022 ولغاية 2 أيلول 2023. وقد وافقت وزارة الخارجية على الطلب، علماً أن بلدية نيويورك تضع موقفين مجانيّين للسيارات في تصرّف القنصلية.
إلى ذلك، توجد في بعثة نيويورك موظفة من فئة كاتبة تمارس منذ 16 عاماً مهام مساعدة تنفيذية خاصة برئيس البعثة. علماً أن هناك موظفاً يشغل هذا المنصب رسمياً، لكنه فعلياً يهتم بمتابعة أمور البعثة كدبلوماسي في مجلس الأمن منذ 7 سنوات.