لم يعد النائب وليد جنبلاط «مؤيّداً» لـ«جبهة النصرة» فحسب. ذهب الرجل بعيداً جدّاً، حيث لم يكن يتوقّع أحد. أوّل من أمس، كان جنبلاط كأحد مشايخ الوهابية. حلّل دم دروز سوريا، تماشياً مع موسم القتل والنحر «الحلال». لم يلجأ البيك إلى نشر فتواه في مقطع فيديو على موقع «يوتيوب»، أو تغريدة على «تويتر»، بل جهاراً في حلقة «كلام الناس» الأخيرة مع الزميل مارسيل غانم، وفي متن حديث عن الديموقراطية والدولة والعدالة والحرية. الآن، يمكن القاتل أن يستريح. من يقصف جرمانا السورية بقذائف الهاون العشوائية وينثر دم الأبرياء على طرقات بيوتهم، لا همّ عنده. جنبلاط حللّ له قتل «المؤيّدين». حاله كحال رامي مدفع الهاون، أو مجهّز السّيارة المفخّخة ومفجّر صاعقها في شوارع الضاحية الدمشقيّة، التي يقطنها دروز.
تفجير سيارة مفخخة الآن في قلب السويداء أو جرمانا حائز رضى ممثّل الموحّدين الدروز في السعودية، المفتي وليد جنبلاط. والخاطف كذلك، معه فتوى «الدم الحلال»، يمكن أن يخطف بين الشام والسويداء «ميكرو باص» مليئاً بالنساء والأطفال، أو أكثر من 50 مخطوفاً درزياً في مختلف أنحاء سوريا، من دون أن يُخبر أحداً عن مصيرهم. بات في استطاعته، في شرع جنبلاط، أن يمثّل بجثثهم ويرميها على قارعة طريق.
في القصور، بين المرافقين والحاشية، الكلام أسهل ما يكون. هل سمع جنبلاط في كليمنصو عن بلدة حَضَرْ (في الجزء المحرّر من الجولان السوري)؟ عن سبعة رجال ذُبِحوا عند مدخل البلدة، لأن مجموعة من المسلّحين تريد البلدة ممرّاً وطريقاً، ومن سوء حظّهم أن حقولهم هي الطريق؟ هل تصل أخبار بلدة داما (شمال غرب محافظة السويداء) إلى المختارة؟ ثلاثة رجال من آل القنطار قتلوا من دون سبب، وتعرّضت البلدة لهجوم عنيف من المسلّحين بهدف الوصول إلى قاعدة قريبة للجيش السوري. هذا ليس من التاريخ، بل قبل ثلاثة أيام.
يدرك جنبلاط جيّداً أن صوته لم يعد مسموعاً في حوران، ربما تسمعه جبهة النصرة والمجموعات المسلحة التابعة لحلفائه في المعارضة، في منطقة اللِّجا على حدود درعا، لكن ليس في السويداء. صوره التي ارتفعت في بيوت أهالي جبل الدروز بعد حرب الجبل عام 1983 تساقطت تباعاً منذ انقلابه على سوريا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. يقول أكثر من مصدر في السويداء إن كلام جنبلاط لم يأخذ صدى في المحافظة، مع أنه أثار استياءً عامّاً من قبل العديد من المرجعيات الدينية والاجتماعية، «لم يتجاوب أحد مع دعوات جنبلاط في السابق إلى قتال الجيش السوري، ولن يردّ عليه أحد الآن، كلامه يزيدنا تمسّكاً بالدولة». في الأصل، هموم السويداء أكبر من تصريح تلفزيوني فيه المزيد من القتل. من يرَ الدماء بعينه على عنق أخيه وفي صدر جاره فلن يرهبه الدم في الكلمات والصور.
ما الذي يدفع جنبلاط إلى اجتياز خط أحمر كهذا؟ الأمر مفهوم في السياسة، مع أن أحداً لا يبرّر. لم يستطع جنبلاط على مدى العامين الماضيين كسب الثقة السعودية، على الرغم من كلّ تصريحاته الناريّة ضدّ النظام السوري ودعوته الدروز إلى ترك الجيش والقتال في صفوف المعارضة المسلّحة. المطلوب موقف لبناني حاد من حزب الله. وبما أن «العين بصيرة واليد قصيرة، يسدّد البيك الفاتورة السعودية المطلوبة لبنانياً، بشيكات بلا رصيد، على حساب أهالي جبل العرب»، يقول أحد أخصامه الدروز في قوى 8 آذار.
للمرّة الثانية، يذكر جنبلاط أن موقفه من النظام السوري، وضرورة التحاق الدروز في سوريا بركب المعارضة، مُدَعَّمان ببيان من مشايخ السويداء. البحث عن البيان على صفحات الإنترنت مهمّة مستحيلة، والبحث الأصعب هو معرفة المشايخ الداعمين لهذا الموقف في السويداء. حبّذا لو يستمع جنبلاط إلى رأي المشايخ الجنبلاطيين من الأزمة السورية، قبل أن يستند إلى بيان غير موجود، ومشايخ لا وجود لهم في الأصل.
كلام جنبلاط لم يصل إلى مسامع شيخ عقل الموحدين الدروز الأول في سوريا حكمت الهجري. لا يغوص الهجري كثيراً في السياسة بحكم موقعه كشيخ عقل، لكنّه يقول إن «الدولة السوريّة والمؤسسات هما الضمان الوحيد لسوريا في مقابل عبث المخرّبين المسلّحين المدعومين من الخارج». يضيف الهجري في اتصال مع «الأخبار»: «الدروز في سوريا مواطنون سوريون بالدرجة الأولى قبل أي شيء آخر، وحرصنا على الدولة كحرصنا على بيوتنا، أي فكرة خارجة عن هذا السّياق هي فكرة هدّامة لا تخدم سوى تخريب سوريا». بنظر الشيخ، «دعوات القتل مستهجنة ومدانة، لأن القتل ليس من شيم الموحدين ولا تعاليمهم الدينية، نحن جماعة علم وحضارة، ولا يمكننا التعايش مع الفكر الأصولي والتكفيري».
شيخ العقل حمود الحناوي يقول لـ«الأخبار» عن السويداء «إنها حاضنة السّلام، وحاضنة السلم الأهلي السوري». بنظر الحناوي «همّ الطائفة كهمّ الوطن، وهذه المحنة تمرّ على السويداء كما تمرّ على كل أجزاء الوطن السوري، ونحن لا نؤمن بتوجيه البندقية إلى صدر أي سوري. السويداء ملتزمة مع مؤسسات الدولة، وحبذا لو يكون موقف الأصوات الآتية من خارج سوريا لمصلحة الوطن والطائفة، لأن التحريض على القتل يزيد هدر الدماء ويضرب استقرار سوريا، وبالتالي استقرار كل المنطقة».
فتوى البيك في نظر شيخ العقل يوسف جربوع «مستنكرة ولافت أن نسمع هذا الكلام. كيف يمكن أن تكون التقدمية وهابيّة في نفس الوقت؟». يؤكّد جربوع لـ«الأخبار» أن أهالي السويداء يتعاملون مع الدولة ومؤسساتها لحفظ الاستقرار ووحدة سوريا، لا مع السلطة كسلطة، «إذا كانت الوطنية السورية تَعامُل، فهذا مؤسف، والتحريض على القتل حرام في ديننا، كما أنه يبيح للمسلّحين قتل الدروز في السويداء وخارجها».
الاستياء لا يقف عند حدود المشايخ. لا يجد الأمير جهاد الأطرش كلاماً كثيراً لقوله. يفتخر سليل سلطان باشا الأطرش بالهويّة السورية، ويقول لـ«الأخبار»: «على حدّ علمي لا وجود لمفتٍ للدروز، شكراً وليد جنبلاط على هدر دمنا».
يلاقي شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان ناصر الدين الغريب مواقف إخوانه في سوريا. يرى الغريب أن «هدر دماء الدروز كلام يتناقض مع الدعوة إلى جمع الشمل، والبعد عن المشاكل الداخلية، كما أننا نهيب بأبنائنا في سوريا أن يكونوا دائماً في الخندق العربي المعهود، وأن يقفوا إلى جانب الجيش العربي السوري».
في السياق ذاته، يرى كبير مشايخ خلوات البياضة في حاصبيا الشيخ غالب قيس في اتصال مع «الأخبار» أن «الدعوة إلى القتل لا تخدم الطائفة، ولا مصلحة للدروز بغير التعقّل، فالقتل والقاتل مخالف لشرعنا وعقيدتنا، هل نقتل كل من يخالفنا في السياسة؟ كل عائلة في السويداء لها جذور في لبنان، ما موقف من يُصدر مواقف كهذه من أقرباء الشهداء وأسر المخطوفين والجرحى في لبنان؟».
هكذا، بجملة واحدة، هدر البيك دماء أكثر من 500 ألف درزي في السويداء وصحنايا وجرمانا وقرى الجولان والقنيطرة. لم يعد «الرّبيع العربي» بعيداً عن الدروز، كما لم يعد الشيخ عدنان العرعور حكراً على فئة. «الربيع العربي» يفرّخ كل يوم «عرعوراً» جديداً.