لم تعد طاحونة الموت في سوريا أخباراً بعيدة، تصل إلى مسامع الموحّدين الدروز في لبنان وعيونهم عبر الشاشات. القابعون هنا، خلف التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، في عاليه والمتن الأعلى والشوف وحاصبيا وراشيا يلامسهم القلق الحقيقي. يجوب هؤلاء كل يوم ساحات السويداء وجرمانا وصحنايا وحَضَر النائية على سفح جبل الشيخ، من بيوتهم، يعرفون مآسي أقاربهم بالصوت والصورة والوجدان، والمرويات الجديدة في القرى. قد لا تجد عائلة درزية لبنانية لا فرع لها في سوريا. وعلى الأغلب، الأعداد الكبرى من العائلات لا تعيش في لبنان، بل في جبل العرب السوري. إن كنت من بيصور أو الشويفات أو ضهر الأحمر أو غريفة أو السمقانية أو عين قنيا أو شويا، فلك في قنوات والسويداء وعرنة ومجدل شمس في الجولان، وكل قرية في السويداء، عمّة أو خالة أو ابن عم.
قرابة الدم عند الدروز عابرة للسياسة. لا هم إن كنت مؤيّداً لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط في عدائه للنظام السوري، وردّدت وراءه تمجيد «جبهة النصرة» وتمنياتك بمقتل الرئيس السوري بشار الأسد. ولا مانع من أن تكون على الضفة المقابلة، في خندق اليزبكيين، مؤيداً للنظام السوري وحزب الله. في كلتا الحالتين والخندقين، يقلقك المستقبل، يرعبك أن تسمع بأن أخاً لك في الملّة ذُبح في حَضَر السورية، لأنه درزي، وشخصاً نمت في بيته مرّةً أو نام جدّك في بيت جدّه قبل خمسين عاماً في السويداء خطفه مسلحو المعارضة السورية ولم يعرف عنه أهله شيئاً منذ ذلك الوقت.
على الطاولة الصغيرة تحت التلفاز المثبّت بالحائط، تقسم أم شادي إطاراً خشبياً مُذَهَّباً بين صورة سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى وصورة الشيخ الراحل أبو حسن عارف حلاوي. ربما تجد صورة الأطرش في أي بيت درزي تقليدي في لبنان وسوريا، وحتى في المغترب. تغطي أم شادي رأسها بمنديلٍ أبيض رقيق، يظهر تحته نصف فمها وخصلٌ رماديةٌ من شعرها، «الباشا (الراحل) كان فارساً شهماً ووطنياً وحمى الدروز وسوريا ولبنان، الله يرحمو». أمضت الخمسينية وقتاً يسيراً من عمرها في السويداء، حين لجأ دروزٌ كثيرون إلى جبل العرب خلال حرب الجبل بين الاشتراكيين والقوات اللبنانية، حتى إنها كسبت بعضاً من لهجة جبل العرب الجميلة، «قافها» قاسية، ومع أنها تعيش في الشوف، فإن لهجتها أقرب إلى ساكني جبل الشيخ.
«الواتس أب» نعمة على أم شادي. عبره تستطيع أن تعرف أخبار قريباتها في عرنة (في السويداء)، وابن مَنْ مِن القرية من جنود الجش السوري شُيّع اليوم، ومَن من المخطوفين عرف أهله عنه شيئاً، وأخبار أزمات الغاز والخبز وطريق السويداء ــــ دمشق.
«كيف واحد فيه يذبح ويقول الله أكبر؟ يا ربّي تنجينا»، تقول أم شادي، «نحن ما منخاف، بس هيدا القتل بخوّف أقوى رجّال، الله يعمي ولاد الحرام عن ولادنا». المرويّة الشعبية هنا لم تنقرض في زمن العولمة، أم شادي وجاراتها لسن عالمات في الدين، لكن لا حديث على ألسنتهن في صبحيات المتّة سوى تشبيه ما يحصل اليوم بـ«علامات القيامة»، وقرب «زمن الكشف»، أي الزمن الذي يقتل فيه الأخ أخيه، ويمرّ المؤمنون فيه بـ«المحنة».
في أغلب بيوت المشايخ، «القعدة العربية» مكانٌ محبّب لاستقبال الضيوف، وإعلانٌ عن كسر الحواجز بين الزائر وأصحاب البيت. في جرد عاليه، يمدّ الشيخ يده إليك بصحن الكعك البيتي المغطّس بالسمسم ويناولك على عجل بعض حبّات التوت الأسود الشامي. يحتاج الرجل إلى وقتٍ لنبش ذاكرته، وتحديد هواجس الأقليّة، في زمن القلق الجماعي.
«تقسيم لبنان وسوريا وفلسطين ليس أكثر من لعنة علينا»، يتحسّس الشيخ بكفيّه القاسيتين لفّته البيضاء: «الدروز أكثر المذاهب تضرراً من التقسيم الذي حصل في القرن الماضي. الحدود فصلت أبناء العمّ بعضهم عن بعض، ثمّ جاء قيام دولة إسرائيل ليعزل دروز الجليل والكرمل عن أقربائهم في لبنان». يرى الشيخ أن الموقف الذي يتخذه دروز سوريا لا يمكن أن يتّخذوا غيره اليوم: «هؤلاء ضمانتهم الدولة المركزية القوية وسط بحر كبير». وسواء اختلف معهم أو اتفق في السياسة، يعود الشيخ إلى الوقت الذي رفض فيه سلطان باشا الأطرش تشكيل دولة درزية على أراضي جبل العرب من ضمن خطّة فرنسا إنشاء دولة حلب ودولة دمشق ودولة العلويين على الساحل السوري. يخبرك الشيخ أيضاً كيف رحل الأطرش إلى الأردن مع مريديه بعد أن قرّر الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي ورئيس أركان الجيش السوري في ذلك الوقت شوكت شقير (والد النائب السابق أيمن شقير) القيام بحملة عسكرية على الجبل عام 1951 لتأديب الأطرش، فما كان من الباشا إلّا أن انسحب معلناً موقفه الشهير «لن أقاتل الجيش السوري، إنهم إخوتي».
في نظر الشيخ، يمر الدروز اليوم «في أدق مرحلة من تاريخهم في العصر الحديث. القلق كل القلق ممّا يحمله المستقبل في حال سيطرة مجموعات تكفّرنا على أراض في سوريا، وفشل الدولة في فرض سيطرتها. هذا يجعل سوريا ساحة غير آمنة، ونحن لا نستطيع أصلاً تشكيل دولة خاصة بنا».
لا يبتعد كثيرون من مشايخ خلوات البيّاضة في حاصبيا عن هذه الرؤية. أخبار حَضَر الواقعة على المقلب الآخر من جبل الشيخ تسمعها كأنها هنا، في عين جرفا أو الفرديس. يقول أحد المشايخ اليزبكيين في مدينة حاصبيا إن «الوقت اليوم هو وقت عصيب، الحرب على أرض الشام تضع الدروز بين خطرين مستقبليين، خطر تقسيم سوريا مع عجز الدروز جغرافياً وعددياً عن تأسيس دولة خاصة بهم، وخطر اعتداءات التكفيريين على إخواننا. ما لنا غير الصبر والأمل بأن تستعيد الدولة السورية سلطتها وقوّتها».
في لبنان أيضاً، تسمع كلاماً مغايراً من مشايخ آخرين، لا سيما في منطقة عاليه وبعض قرى راشيا. يقول أحد المشايخ المقرّبين من جنبلاط إن «جبهة النصرة لا تشكّل خطراً على الدروز في سوريا. الدروز أقحموا أنفسهم إلى جانب النظام السوري بدل أن يقفوا مع الأكثرية السنيّة، بينما الخطر الحقيقي في لبنان هو حزب الله الذي حاول اقتحام الجبل في أحداث 7 أيار، وكل يوم يهدّدنا بسلاحه والقمصان السود». يتابع الشيخ: «يعرف النظام السوري جيّداً كيف يستميل الأقليّات ويخيفهم من البعبع الذي اخترعه، وهو التكفير، لكنّ هذا ليس لمصلحة الدروز، وعليهم التفكير جيّداً في ما بعد الأسد». ألا تصلكم أخبار القرى الدرزية واعتداءات مسلحي «جبهة النصرة» عليها؟ يجيب الشيخ: «بالطبع نسمعها ونتواصل مع أقربائنا، ونحن نصحناهم منذ البداية بترك الجيش السوري حتى لا يتعرضوا لهجمات من المعارضة، لكنهم لم يسمعوا، ربّما يقدرون هم الموقف أكثر، لكن هذا رأينا، وعندما يسقط الأسد وتقوم دولة جديدة لن يكون باستطاعتنا مساعدتهم».
لا يمكن أحداً أن ينكر مدى تماسك خطاب جنبلاط عند الدروز المؤيّدين له، وثقة بعضهم بأن «قيادة البيك للطائفة هي قيادة حكيمة تبعد عنا المخاطر»، على ما يقول أحد المشايخ المقربين من المختارة. لكن مع ارتفاع وتيرة العنف في الأزمة السورية ومشاهد الذبح والقتل البشعة «لم يعد بإمكاننا غض النظر عنها وحصر المسألة بالسياسة»، بحسب أحد الجنبلاطيين القدامى: «ثمّة قلق كبير ينتاب الدروز، كل الدروز، من المستقبل». قد تكون مناوشات الاشتراكيين مع حزب الله في 7 أيار تركت أثراً بارزاً في ظهور حالة كراهية كبيرة للحزب في أوساط الجنبلاطيين، «لكن حزب الله لا يذبح، وهو يعرف حدوده ونحن نعرف حدودنا، أما جبهة النصرة كما نراها ونسمع أخبارها فلا تعرف حدوداً، وهي في أصلها حركات تكفيرية تكفّر حتى المسلمين السنّة، فكيف بالدروز؟».
القلق ليس حكراً على طائفة الموحدين الدروز. القلق اليوم سمة عامة تنخر نخراً في وجدان مجمل أقليات المشرق العربي. لكن الطائفة التي تتغنى بأنسابها وصفاتٍ كالقوة والشهامة والتسامح والوطنية، و«توازن ردعها» مع من يهددون وجودها تستشعر الخطر الآتي من كلّ حدبٍ وصوب، وتقف أمام الحريق الممتد من سوريا بكثيرٍ من الوجل، بانتظار معركة الحفاظ على النفس والمكتسبات.



نحرّم التعدي منّا وعلينا


كالنار في الهشيم، انتقل تصريح وهمي للنائب وليد جنبلاط على صفحات الإنترنت والهواتف النقّالة. خلاصة تصريح جنبلاط تشدّ عصب الدروز وتؤكد أن «لا أحد يهددنا بالقمصان السود. نعرف كيف ندافع عن أنفسنا جيداً. هم لديهم قمصان سود ونحن لدينا». تأخر الحزب التقدمي الاشتراكي لينشر نفياً للخبر، وتهديداً بالملاحقة القانونية بحقّ من يفبرك أخباراً كاذبة باسم الحزب. تصريح جنبلاط الوهمي لا يعني أن فحوى الحديث لا يتناقله أبناء القرى القريبة من مناطق وجود حزب الله، مع اقتناع بضرورة التحرّك لـ«كبح حزب الله عن التعرّض للجبل». يؤكّد أكثر من مصدر أمني وسياسي في الجبل أن القرى الممتددة من الشويفات إلى عاليه تشهد حركة مسلحة لافتة لاشتراكيين وبعض المشايخ، تتخللها تدريبات عسكرية في تلال الشويفات وفالوغا في المتن الأعلى، ونقاط حراسة ليلية على مداخل القرى، لا سيما ديرقوبل التي تنشط فيها «جماعة الداعي عمار» وبشامون وعرمون وعيتات وعيناب وبيصور، مع حركة أقل في عين عنوب، ودوريات في جبال الباروك المطلّة على البقاع الغربي بهدف «منع حزب الله من التسلّل إلى القرى». ويؤكد أحد المشايخ الفاعلين في ما يسمى «حركة أبناء التوحيد» أن الحركة التي تأسست منتصف سبعينيات القرن الماضي واشتهرت في حرب الجبل (1983) إلى جانب ما سمّي «قوات أبو إبراهيم» أعادت تفعيل نشاطها. يقول الشيخ إن هدف الحركة «ليس الاعتداء على أحد، لكننا لا نقبل أن يعتدي علينا أحد في المستقبل، لا حزب الله ولا التيارات التكفيرية، نحرّم التعدي منّا وعلينا». مصادر الحزب التقدمي الاشتراكي تنفي أن يكون الحزب يشرف على عمل هذه المجموعات: «هذه حالات محليّة في القرى لا تعدو كونها فولكلوراً للشعور بالقلق، على الرغم من أن أحداً لا يهدد الجبل، وخصوصاً حزب الله، بل على العكس». وتشير مصادر قوى 8 آذار في الجبل إلى أن التنسيق الأمني مع الاشتراكي «جيد جدّاً في هذه المرحلة. يبدو الاشتراكيون حريصين على عدم حدوث أي إشكال أمني في الجبل». كذلك تشير المصادر إلى أنه «تم تفعيل التواصل بشكل كبير بين الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي في المرحلة الأخيرة، في ظلّ اتفاق الطرفين على ضرورة تحييد الجبل عن أي اشكالات أو توترات أمنية». وتلفت المصادر إلى أن خطاب الاشتراكيين المرتفع أحياناً يبرّره الاشتراكيون لمن يلتقونهم بأنه «ضرورة لسحب البساط من تحت حركة المشايخ التي تعلن مواقف متطرّفة».