مع أن مناطق لبنانية عدّة شهدت تداعيات لأحداث صيدا، فإن مدينة طربلس تفاعلت مع هذه التطورات في عاصمة الجنوب، كما لم تتفاعل أي منطقة لبنانية أخرى.
جملة عوامل ساعدت في أن يكون التفاعل الطرابلسي مرتفعاً قياساً ببقية المناطق، منها أن الشيخ أحمد الأسير استطاع جذب عدد من المشايخ والمناصرين للوقوف إلى جانبه ومساندته في الفترات السابقة، مع أن أغلب مشايخ المدينة تحفظوا على الكثير من أفكاره وخطواته.
كما أن قادة المجموعات المسلحة وبعض المشايخ الجدد، من ذوي التوجه السلفي المتشدد، وجدوا في ظاهرة الأسير فرصة للبروز، وإثبات أنهم يمسكون بالأرض ولهم تأثير كبير فيها، أكثر مما يملكه سياسيون ومشايخ وغيرهم.
يضاف إلى ذلك أن التحريض على الجيش اللبناني في طرابلس في الآونة الأخيرة، قد وجد لدى هؤلاء متنفساً للتعبير عنه، سواء من خلال توجيه الانتقادات للجيش، أو من خلال استهدافه بشكل مباشر، عندما عمد مسلحون أمس الى الاعتداء على مركز للجيش اللبناني في باب التبانة بإطلاق النار عليه، ما أدى إلى سقوط شهيد وجريح من الجيش و4 جرحى من المسلحين، بعدما سبق تعرض مركز آخر للجيش أول من أمس في منطقة الملولة لاعتداء مماثل.
في موازاة ذلك، ذهب أمس التباعد بين الجيش اللبناني ومشايخ من الإسلاميين والتيار السلفي مسافة بعيدة، بعدما لم تتجاوب القيادة العسكرية مع مبادرة هيئة العلماء المسلمين للتوسط مع الشيخ الأسير لإيجاد مخرج للأزمة، ما دفع برئيس الهيئة الشيخ سالم الرافعي إلى تحميل الجيش اللبناني «مسؤولية إفشال المبادرة»، لأن قيادته «لم تتجاوب مع مبادرتنا»، معلناً أنه لن يساهم «بعد الآن في ضبط الشارع، وعلى الدولة تحمّل مسؤولياتها».
هذا الإعلان تلقفه قادة المجموعات المسلحة في طرابلس على جناح السرعة، واعتبروه بمثابة ضوء أخضر أعطي لهم للنزول إلى الشارع، بعدما كان الشارع الطرابلسي قد شهد انفلاتاً أمنياً نسبياً، قبل أن يتطوّر على نحو غير مسبوق في ساعات بعض الظهر، ما جعل طرابلس تعيش تحت رحمة المسلحين الذين استباحوها من أقصاها إلى أقصاها، وفرضوا على أصحاب المحال التجارية إغلاق أبوابهم بالقوة. لكن هؤلاء المدججين بالسلاح أصروا في إطلالاتهم الإعلامية على القول إن تحركهم سلمي.
الانفلات الأمني في طرابلس كان يسير تصاعدياً منذ ساعات صباح أمس، إذ كانت أغلب الطرقات مفتوحة، وفتحت بعض المحال التجارية أبوابها، كما ذهب تلامذة الشهادة المتوسطة إلى امتحاناتهم وإنْ وسط أجواء من القلق. لكن جولات بعض المسلحين في بعض شوارع طرابلس مستخدمين سيارات أو دراجات نارية في تجوالهم، وإطلاقهم الرصاص في الهواء لإرهاب المواطنين، جعل هؤلاء يتيقنون من أن يوم أمس لن يمرّ على خير.
وفعلاً، ما كاد الشيخ الرافعي يعرب عن نيّته عقد مؤتمر صحافي في مكتبه الكائن في منطقة الضمّ والفرز الحديثة، حتى كانت مجموعات كبيرة من المسلحين تجول في المنطقة وهي تطلق النار في الهواء، لإجبار المقاهي والمطاعم والمحال التجارية فيها على إقفال أبوابها، بينما كانت بعض محال بيع المشروبات الروحية في ساحة الكورة والبحصاص تتعرض للاعتداء، كسراً وحرقاً، على أيديهم. وتوافد بعض قادة المجموعات المسلحة ومناصريهم إلى ساحة عبد الحميد كرامي، معلنين تنفيذ اعتصام تضامني مع الأسير. وأعطوا الجيش مهلة تنتهي عند الساعة السادسة من مساء أمس «لفك الحصار عن الأسير، وإلا فإن الأوضاع الأمنية ستتدهور نحو الأسوأ».
هذا الاعتصام الواسع في ساحة كرامي، والذي شارك فيه عشرات المسلحين وهم بكامل عدتهم وعتادهم الحربي، جرى التحضير له خلال اجتماع عقد في منزل إمام مسجد النور في منطقة المنكوبين الشيخ محمد إبراهيم، المقرب من حزب التحرير، حضره سعد المصري المقرب من الرئيس نجيب ميقاتي، وعامر أريش وزياد علوكي المقربان من تيار المستقبل، أفضى إلى التوافق على «دعوة الشباب المسلم في طرابلس للنزول إلى الشارع تضامناً مع صيدا والأسير».
وجاء اعتصام ساحة كرامي بديلاً من اعتصام مماثل، بدت الدعوة إليه مثيرة للجدل، كان إبراهيم قد دعا إليه أمام منزل ميقاتي في منطقة المعرض، «بهدف رفع الظلم عن المسلمين»، حسب ما جاء في بيان الدعوة إلى الاعتصام.
وسط هذه الأجواء، غابت القوى السياسية عن واجهة الأحداث في طرابلس، ومن حضر منها في تصريح أو في لقاء معين، كالذي عقد في مقر الجماعة الإسلامية في أبي سمراء أمس، وحضره نواب ومشايخ وفاعليات، كان متخلفاً وبعيداً عن خطاب الشارع الذي بدا أنه هو من يقود السياسيين وليس العكس.
وفي وقت لاحق، ومع الإعلان عن أن الأسير أصبح في عهدة «الجيش السوري الحر»، وإن لم تتأكد صحة الخبر، تراجعت حدة التوتر نسبياً في طرابلس، لكن من غير أن يشير ذلك إلى أن الأوضاع في طريقها نحو أن تستقر نسبياً أو نهائياً، نظراً الى غياب أي تسوية في هذا المجال.