تلتقط الأذن حديثاً صاخباً بين شبّان عشرينيّين. أحدهم يجزم بوجود «قرار على أعلى المستويات» يقضي بأن طريق الجنوب ـــ بيروت لن تقطع مهما كلف الأمر. المعلومات الوافدة إليهم على الهواتف الخلوية، وعبر الاتصالات المباشرة مع الأهل والأصدقاء، تُنبئهم بأن هذا الأحد سيكون واحداً من الأيام التي تزايدت خلال العامين الماضيين: صيدا مشتعلة، والطرقات المؤدية إلى بيروت في النقاط الساخنة ستكون مقطوعة . الأخبار العاجلة المقلقة تزداد. معلومات عن استشهاد ضباط وجنود في الجيش برصاص مسلحين تابعين للشيخ أحمد الأسير. يزداد التوتر. يشرع البعض بحسابات حول كيفية العودة إلى العاصمة بعد نهار ممتع على أحد أكثر الشواطئ إغراءً على الساحل اللبناني. إحدى الفتيات كانت قد طمأنت والدتها بأن عطلتها ستكون عند شاطئ جبيل. «مرّرت عليها كذبة بيضاء كي لا تقلق؛ هي تعرف أننا نحبّ المجيء إلى صور، غير أنّها تنبّهنا دوماً الى أنّ الاضطرابات في صيدا قد تحبسنا جنوباً». تصاعد قلقها في سياق درامي مع توالي الأخبار عن شهداء للجيش . في البدء، كانت مطمئنة على قاعدة أن أحداثاً كهذه تتوالى منذ عامين، وسرعان ما تنتهي. لكن عندما تعي خطورة المعطيات فعلاً، تبدأ تلك الضحكات الممزوجة بالنكتة السوداء: أوصيكم يا من ستبقون على الشاطئ اليوم بأن تذكروني بالخير وبأن تتمتعوا بهذا البحر من بعدي.
زجاجات الجعة تحت الشمس تغري جميع الموجودين. صديق الفتاة حضر إلى الشاطئ من دون أيّ تصوّر مسبق بأن هذا الأحد المشمس قد يتحول إلى أسود. طائرته إلى أحد بلدان أفريقيا تنطلق من بيروت عند منتصف الليل . يرتبك، يشتم الأسير. غير أنّه سرعان ما يعود إلى حالة الاستجمام، موحياً بأن البقاء في لبنان يلائمه أيضاً.
على هذا الشاطئ سياح داخليّون من كل المناطق. ميشال، ابن بلدة الفرزل، والمتأهل بسيدة جنوبية، يستغرب عدم اتصال والده المولع بالحفيد وبسلامته، في هذه الأوقات الصعبة. «لعلّه يتمتع بوليمة يوم الأحد ولم يتنبه إلى هذه التطورات». ولكن سرعان ما يتّصل الجدّ القلق. يطلب من ابنه البقاء مع عائلته في الطرف الآخر من البلاد.
يخرج بعض الموجودين على تلك البقعة السياحية من التحليل المباشر للأحداث. يتحدثون عن أبعادها. «إذا كان الوطن ستتقطع أوصاله فعلاً، فلنبق في هذا الجزء من البلاد لنحافظ على نمط الحياة هذا الذي نعيشه»، يقول طبيب حضر مع زوجته وابنه لتمضية فترة بعد الظهر. فعلاً، لا تبدو البلاد في هذه اللحظات صديقة لوجود المواطنين في مناطقهم، فكيف إذا ساحوا داخلياً. يستمرّ عدد الوافدين السياح إلى لبنان _ أكانوا أجانب أم لبنانيين بجوازات سفر أجنبية _ بالتراجع. حتّى أيار الماضي، بلغ عددهم 487 ألفاً، بانخفاض نسبته 12.5% عن العام السابق .
الهواتف لا تهدأ، اتصالات وخدمات الأخبار العاجلة. لا تتحرك الشفاه لإطلاق جملة واحدة من دون شتيمة أحمد الأسير ومسلحيه. أحدهم يوضّب الأغراض ثم يُفرغها لمعرفته أنّ رحلته ستكون معرقلة جداً . «البقاء هنا أرحم من محاولة تجاوز صيدا؛ سننتهي من هناك، ولكن ماذا نفعل عندما نصل إلى منطقة الناعمة والمناطق الأخرى التي شهدت قطع طرقات؟».
وبالفعل، نقل العديد من وكالات الأخبار أن عدداً من الأشخاص تعرّضوا للاعتداءات والضرب من قاطعي الطرق في منطقة الناعمة. من قرّروا عند مداخل صيدا الالتفاف والعودة جنوباً مع بدء المواجهات، اعتمدوا الخيار الصائب . لتقطع أوصال الوطن، بالشكل الذي فرضه المسلحون يوم الأحد، تداعيات ليست أمنية وحسب، بل اقتصادية أيضاً. أخيراً، أكّد رئيس نقابة أصحاب مؤسسات السياحة والسفر، جان عبود، في حديث إلى «الأخبار »، أن الحجوزات إلى لبنان هي عند أعلى مستوياتها، وأن معظم القادمين هذا الصيف هم المغتربون اللبنانيون. ولكن العديد من هؤلاء لم يُحققوا حجوزاتهم حتى الآن . وبالتالي هي عرضة للإلغاء على وقع أصوات الرصاص التي يسمعونها عبر الفضائيات التي تبث مباشرة من البؤر المتوترة.
يبعث أحد الأصدقاء المستقرين في الخليج رسالة عبر «الفايسبوك»: «كيف الأوضاع؟ هل أبقي الحجز أم ألغيه؟». في تلك المنطقة، هناك ما يكفي من مباعث القلق بعد تهديد عدد من سلطات البلدان النفطية بأنّ مغتربي لبنان معرضون للطرد. تحاول طمأنته وفي بالك بأنّ موقعة صيدا قد تتحول إلى مواقع.