التحقيقات الجارية في شأن تفجير بئر العبد ستصل الى نتائج واضحة، سواء قرر المجرم الكشف عن هويته تلقائياً، او نجح المحققون في الوصول اليه سريعا. وربما، تفرض الحكمة في حالة توتر كالتي يعيشها لبنان، انتظار النتائج قبل توجيه الاتهام لهذا الفريق او ذاك.
هذه الفرضية صحيحة مئة في المئة. وصحيح ايضا، أن اطلاق التهم، يعني الاستجابة لأحد اهداف القتلة الذين يبحثون عن ما بعد التفجير، لكي يختاروا النقطة التالية، ولكي يقرروا ما اذا كانت هذه الجريمة كافية لتحقيق اهدافهم ام ان الامر يحتاج الى اكثر. وقد يعتقد هؤلاء ان الامر يحتاج الى جرائم ترتكب في مكان آخر، بغية رسم مشهد التقاذف بالسيارات المفخخة والعبوات بين المتنازعين.
هل يعني ذلك ان الكلام يجب ان ينتهي عند هذا الحد؟
بالتأكيد لا، لأن منطق الامور والمعطيات والتقديرات السياسية والامنية والحسابات، كلها قادت قبل وقت غير قصير الى تقدير خلاصته، ان جهة ما، ليست مجهولة الهوية تماماً، بدأت تعد لتنفيذ سلسلة من الجرائم في لبنان. وان المناطق الخاضعة لنفوذ حزب الله، السياسي والشعبي والعسكري والامني، ستكون هدفاً مباشراً. التقدير نفسه، لم يكن قادراً على رسم سيناريو نهائي لموجة الجنون هذه، لكنه كان يضع في الحسبان، وبشكل واضح لا لبس فيه، ان تفجيراً كالذي وقع امس في بئر العبد في طريقه الى التنفيذ.
هذا التقدير، توافر ليس فقط للمقاومة، بل للآخرين في البلاد. ولبعض من لا يعترض على جنون كهذا، اعتقادا منه بأن «عقاباً عاماً سيردع حزب الله داخليا وخارجيا». والفرق بين سلوك الطرفين، هو أن حزب الله باشر، ومنذ اشهر، سلسلة من الاجراءات غير الواضحة تماما، تستهدف عمليات مسح شبه يومية لأمكنة كثيرة، من بينها أحياء في الضاحية، وخطوات وقائية هدفها تعطيل محاولة التنفيذ، او عرقلة عملية التنفيذ، او التخفيف من الخسائر المرتقبة لهذه الجريمة. لكن العاقل يعرف انه ليس بمقدور احد اعلان قدرته على منع حصول هذا الامر. لماذا؟
اولاً، لم يهرب حزب الله من مسؤوليته عن دفع أثمان باهظة لموقفه من الازمة السورية. ووصل الامر حتى اعلان امينه العام السيد حسن نصرالله، في خطابه الاخير، ان الحسابات تأخذ في الاعتبار ردود الفعل على دوره العسكري المباشر في سوريا، او على دوره المركزي في المقاومة وعلى دوره المانع لعودة السيطرة الاميركية على لبنان. وبالتالي، فإن حزب الله كان يعي تماماً ان جهات عربية ودولية، وحتى لبنانية، ستدعم بالمعلومات والتقنيات والادوات والبشر أعمال عنف من هذا القبيل. وعندما يفتح المزاد على اجرام ضد حزب الله، سيكثر الزبائن، وستكون اسرائيل في مقدم من يمد يد العون لمن يريد ضرب ألد اعدائها. فكيف الحال اذا كان من يتطوع لارتكاب هذه الجريمة، يمكن لعمله ان يقدم خدمة اضافية لاسرائيل، تتمثل في اشغال المقاومة بخصوم غيرها؟
لندع جانبا كل بيانات الادانة التي صدرت من هذا الفريق او ذاك. ولندقق في ردود الفعل الحقيقية، سواء تلك التي وردت بين السطور، او قيلت صراحة في غرف مغلقة، او تولى صبية التعبير عنها في الشارع. وهذه الردود، تعني ان في لبنان فريقا يعاون اعداء المقاومة على التعرض لها، وهذا الفريق يبدو ان جنونه بلا حدود. اذ هو يقدم، عن سابق اصرار وتصميم، ليس على معاقبة جسم المقاومة المباشر، بل جمهورها اللصيق.

التمهيد للجريمة

يعتقد هذا الفريق، ساذجا، انه طالما تعذرت اصابة الحزب او المقاومة مباشرة، او طالما انه من الصعب مواجهة الحزب والمقاومة مباشرة، فلماذا لا يتم اللجوء الى لعبة الغدر، والى لعبة الجنون المفتوح، وذلك من خلال عدة امور:
اولا: اعتماد وتيرة تصاعدية من خطاب التحريض على الحزب واعتباره مصدر خطر على جمهوره وعلى باقي اللبنانيين. وادارة اكبر آلة للكذب والفبركة، بهدف اعتبار سلاح المقاومة موجهاً الى اهل لبنان لا الى اعدائه. والسعي الى زرع صورة نمطية عن الحزب، باعتباره جهة ارهابية مسؤولة عن جرائم الاغتيال وعن التسلط على البلاد والعباد. وصولا الى حد اعتبار المقاومة جهة معادية تقوم بدور المحتل للارض والغاصب للحقوق والمصادر لحرية الناس.
ثانيا: ارفاق هذه الحملة بحملة سعار مذهبية غير مسبوقة، هدفها قطع اي نوع من التواصل الاجتماعي والسياسي والثقافي والشخصي بين السنة والشيعة، ولا بأس عند اصحاب هذا العقل المجنون من استخدام كل شيء لتحقيق هذا الهدف، من المساجد والمؤسسات الدينية الى المؤسسات الرسمية والسياسية، الى وسائل الاعلام والاندية والجمعيات الاهلية، ورفع مستوى القطيعة الى حد وضع قوائم بأسماء متاجر تجري الدعوة لمقاطعتها فقط لأن اصحابها من الشيعة.
ثالثا: عدم توقف هذا الفريق عن استجداء الخارج للمساعدة على ضرب الحزب والمقاومة. وبعد خيانة العام 2006، لم يعد يخجل هذا الفريق باللجوء الى اي شيطان في الدنيا ما دام يساعد في هذه المهمة، وصار عاديا طلب دعم الغرب واسرائيل وكل جماعات التكفير والعصابات على انواعها، والتورط في لعبة تعزيز مناخ التفلت والفوضى الذي يزيد من خصوبة المجموعات الفوضوية والارهابية لاستخدامها حيث يجب. والذهاب الى ابعد من ذلك، بأن يتحول هذا الفريق الى مجموعة مخبرين عند عواصم خارجية وعند اجهزة استخبارات يقدمون المعلومات ويفبركون الحكايات، وليس مهماً ما يقال، لكن المهم لهؤلاء هو أن تؤدي اخبارهم الى معاقبة الحزب والمقاومة وجمهورها في كل بقاع الارض.

تغطية الجريمة

لكن ما هو أبشع من كل ما سبق، مسارعة القوى المتنازعة للمقاومة الى تبرير الجريمة. ومثلما لم يكتف هؤلاء بتحميل المقاومة مسؤولية جريمة عبرا ضد ابناء صيدا والجنوب والجيش اللبناني، ها هم، الآن، يقدمون التبريرات للمجرم الذي زرع عبوة الضاحية، ويسعون الى الحصاد، هكذا هي حالهم اصلا: مجموعة من اللقطاء الذين يعيشون على فتات الآخرين. وهم الآن يريدون تغطية المجرم، ويبررون له جريمته، ويشجعونه على المزيد «طالما» ان المقاومة لم تقدم التنازل المطلوب لبنانيا واقليميا.
المخيف في الامر أن الجانب اللبناني من هذا الفريق فقد كل احساس بالمسؤولية، وصار همه ليس الحفاظ على ما يعتقد انه مغانم حكم او نفوذ بين الناس، بل همه الحفاظ على رعاية الخارج له، همه ألا يرفع الغرب الغطاء عنه، وهمه الا يتهمه اسياده بالفشل في تنفيذ المهمة للمرة الالف. وهذا يقود الى توقع الاعظم من هؤلاء!

التجربة والردع

في هذه الاجواء، من المفيد العودة الى يوم 8 آذار 1985، حين وقع انفجار ضخم في شارع بئر العبد الرئيسي. كانت العبوة الناسفة تستهدف المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله. لكن نحو 90 مواطناً من سكان المنطقة استشهدوا. بعد وقت غير قصير، توصلت التحقيقات إلى تحديد مرتكبي المجزرة. هم مجموعة من اللبنانيين المرتبطين مباشرة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وبعد سنوات، ظهر جزء آخر من الحقيقة في كتاب للمحقق الصحافي الأميركي الشهير بوب ودوورد (الصحافي الذي كشف فضيحة ووتر غيت). في كتابه (The Veil)، يكشف ودوورد الكثير من أسرار الاستخبارات المركزية عندما كان يرأسها وليام كايسي بين عامي1981 و1987. ومن تلك الأسرار ما يرتبط بمجزرة بئر العبد. يروي الكاتب الأميركي كيف حصلت السي أي إيه على تمويل لعدد من عملياتها في تلك الفترة من المملكة السعودية، وبتعليمات من الملك فهد. وكان صلة الوصل بين النظام السعودي والاستخبارات الأميركية في ذلك الحين سفير الملك في واشنطن، بندر بن سلطان (مدير الاستخبارات السعودية حالياً)، الذي حوّل مبلغ 3 ملايين دولار إلى حساب مصرفي سري في سويسرا لتمويل العملية بعد الاتفاق عليها بين الطرفين. ولمّا فشلت العملية في اغتيال فضل الله، أصيب بندر بمغص في معدته.
امس وقعت جريمة جديدة لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن تلك التي نُفّذت قبل 28 عاماً. وحزب الله عوّد الأعداء على انه يعمل لمنعهم من القيام بالجريمة او منعهم عن تكرارها. وفي العلم العسكري والامني، يسمى هذا النوع من العمل بالردع. وعلى من قرروا وخططوا وشاركوا في جريمة امس، أن يتحسسوا رقابهم، اينما ذهبوا في ارض الله الواسعة!