ما أن تقترب من شارع السنترال، حيث يقع «جامع السلام»، حتى يصبح لكل خطوة تخطوها هنا صوت شظايا الزجاج التي فرشت الشارع قبل مئتي متر تقريباً من موقع الانفجار. الشوارع في طرابلس خالية الا من مسلحين يجوبون الطرقات على دراجاتهم النارية في تشكيلات ثنائية، وقد شهر بعضهم مسدسات في حين شهر البعض الآخر بنادق اتوتوماتيكية ورشاشات، وأخذوا يرمقون العابرين النادرين امثالنا بنظرات ريبة.
كأن الشارع الآن هو لهم، ونحن لسنا إلا أغراباً عن مدينتنا المنكوبة بتفجيرين إرهابيين. أحث الخطى مشياً صوب موقع الانفجار الثاني... لا احد في الطرقات.
امام مدخل الطوارئ في المستشفى الاسلامي العشرات من الاهالي يقفون وقد تجهّمت وجوههم، البعض يخرج مضمّداً من هنا، والبعض الآخر ينتظر خارجاً وهو يحتسي قهوة البائع المتجول من دون ان ينبس ببنت شفة. الامر يتكرر امام مستشفى الملا القريب حيث تجمع العشرات من الاهالي. الصدمة تبدو على الوجوه، وفي حين تنتظر ان تعلو اصوات الضحايا او اهاليهم، الا ان صمتاً اخرس متجهماً يثقل هواء المكان. لا كلام حين لا يكون للكلام من معنى، حتى الصراخ واللطم... لا شيء. هذا هو الصمت الأخرس.
كلما اقتربت من موقع الانفجار، في النقطة التي تفصل بين طرابلس ومدينة الميناء، تزداد الشوارع تجهماً. «مدينة الموج ترحب بكم»، تقول اللافتة التي تطالع الآتي من بيروت الى هنا. شيء من روائح المحروقات في الهواء. الرائحة تصبح قوية على بعد خمسمئة متر. أوقف شاباً يبدو آتياً من هناك. أتحجج بالسؤال ان كان الشارع سالكا. ينظر الي ويقول: «من بيروت ما هيك؟ روحي هلق ما في شي ستنا». التهذيب الطرابلسي حاضر دائماً مع السيدات. لكن ما يلبث ان يجيب احد الشباب المتوترين الذي كان يشير اليه عن مبعدة متسائلا عن هويتي: «ما في شي الحرمة بدها تروح ع بيتها». كل المحلات والمقاهي مقفلة، الا مقهى الاراكيل القائم بالقرب من مكان الانفجار. هنا، جلس بعض الجرحى المضمدين، وبعض سكان المباني القريبة، متهالكين هكذا على كراس في الشارع امام المقهى المهشّم، فوق شظايا زجاج نوافذ المباني المنهارة والمختلط بزجاج الاراكيل المحطّمة. جلسوا وقد انتشر بين ارجلهم وأمامهم حطام السيارات المختلط بجثث نخيل الكورنيش المقتلع من مكانه بقوة الانفجار في حين تناثر الليمون الفج الذي هرّ عن الشجر محترقاً بقوة عصف الانفجار ولهيبه. هكذا، كانوا ينظرون تارة بعيون فارغة من المعنى وتارة بعدوانية الى المارة، ممن لم يعيشوا ما عاشوه وجاؤوا «ليتفرجوا» عليهم. كل هؤلاء الفضوليين الآتين الى هنا، كانوا يقفون شاخصين تارة الى الجامع المهشم وتارة الى تحت ارجلنا حيث انتشر الحطام المختلط بأشلاء غير مفهومة المصدر. فيما انتصبت البنايات المحيطة كجثث واقفة من الالمنيوم والتي بدت واجهاتها كما تبدو المباني بعد إعصار عاصف خلع كل ما له علاقة بشبابيك او نوافذ أو شرفات. رجل يفتعل مشكلاً من دون ان نفهم ما الذي يحصل، يصرخ في هذا الصمت شيئا عن الأراكيل والأشلاء لبعض العاملين التقنيين في «فان» للنقل المباشر تابع لأحد التلفزيونات... «ما الأمر؟» نسأل رجلاً كهلاً بدا انه متعلم ومحترم، فيجيب «شو بيعرفني.. هلق كل واحد بدو يعمل فيها ابو عنتر». لم نجسر على الاقتراب مستفهمين: الدم لا يزال حامياً. على حافتي الطريق، رقدت هياكل السيارات المتفحمة مكانها، ترجو ألّا تكون هناك جثث في داخلها، في حين احتل وسط الطريق موتور احدى السيارتين اللتين قيل لنا انهما انفجرتا هنا. «تنتين ما واحدة انفجرت»، يقول احدهم. لا يؤخذ كلام احد على محمل الجد الآن. المتبرعون بالشائعات والتحليلات كثر في مثل هذه الظروف. رجل الأدلّة الجنائية يضع على رأسه قبّعة كاوبوي ويقترب وهو يصور بكاميرا فيديو الموتور وشظايا السيارة. أخيراً نصل الى الجامع، او لنقل على بعد امتار منه، كون قوى الامن الداخلي احاطت بدباباتها المكان في حين انتشرت عشرات البذات الكحلية في موقع الانفجار الذي سُوّر بشريط اصفر. الفجوة التي حفرها التفجير عميقة أما الرصيف الملاصق لها، فكأن بركاناً انفجر تحته، او كما تبدو الارصفة في افلام الرعب حين تخرج كائنات غير طبيعية من تحتها. يسمح لنا عنصر قوى الامن بالاقتراب حين تناديني احدى الزميلات الواقفات لإرسال تقرير لمحطتها التلفزيونية. أنظر من موقعها، أيْ من الجهة المقابلة من الرصيف، تحت البناية التي يقع منزل اللواء المتقاعد أشرف ريفي في طوابقها العليا، يبدو الجامع مهشّم الواجهة في حين انتشرت بقايا متفحمة امامه وحوله لا يمكن ان تعرف اصلها إن كان انسانياً أم من بقايا السيارات أو المباني: كلّها متفحمة.
مئات الأحذية لا تزال على درج الجامع المنكوب. تشير الزميلة الى سيارة بالقرب من الجامع: «هيدي السيارة فيها جثة متفحمة وعلقانة هونيك...». تقولها وكأنها تهديني الى ما يفيد تغطيتي. فلا أقترب. بمَ سيفيدني النظر؟
أحد الشهود العيان كان يقول إنه خائف من ان يكون الانفجار قد قتل اكثر من المصلّين في الجامع، يقصد زبائن المقاهي المجاورة الكثيرة هنا، والتي اصبحت كثيرة في السنوات الأخيرة في شارع يؤدي الى شارع سياحي قريب يلجأ اليه الشبان والشابات في طرابلس التي اصبحت مغلقة على التسلية. يتخوف من ان يكونوا قد طاروا أشلاء، لكنه يستدرك كمن يحدّث نفسه «بس ان شالله ما يكونوا كتار لأنو يعني كانت الساعة واحدة نص، ويوم جمعة. يعني ما في كتير عالم بالقهاوي كمان».
الشاب الذي يقطن هنا على بعد شارعين نزل فوراً وكالمجنون عند حصول الانفجار لكي يفتش عن اخته التي اعتادت سلوك هذه الطريق عائدة الى المنزل من نادي الرياضة. قال: «حاولت الاتصال بها ولكن كالعادة حين يحصل انفجار لا يكون هناك إرسال. لكني اطمأنيت عليها واتيت فوراً لأستطلع الانفجار والاضرار وان كان بامكاني المساعدة». ثم يروي بتأثر عميق كيف انه وجد حول المكان حوالي الفي شخص تجمعوا خلال خمس او عشر دقائق «بس كانوا هيك... يعني ساكتين ولا كلمة. بس في كان رجال عم يبكوا والنسوان الكبيرة الساكنة بالبنايات المجاورة عم يصرخوا والدم على وجوهن وتيابن... يا حرام». يقول ان الصليب الاحمر والدفاع المدني والاطفائيات لم تصل الا بعد مرور ثلاثة ارباع الساعة! اندهش فمقر الصليب الاحمر قريب جداً من المكان. فيقول مستخفاً بمرارة: «يا عمي. البلد عايفة حالها».
حين وصولنا لم يكن هناك جندي واحد من الجيش. كله كحلي وبذات قوى امن مرقطة «الظاهر اتفقوا انو يروح الجيش وهني يتولوا الموضوع». كاميرات التلفزيونات تقف هنا، تحت بناية ريفي. والزميلات والزملاء المراسلون يرسلون تقاريرهم: «35 قتيلاً على الاقل»، تقول الزميلة فيجيبها صديق كان معنا: «ايا؟ لهلق 45 قتيل و370 جريح... اسا بدو يطلع العدد كتير. الحمدلله الناس ما كانت عم تطلع من الجامع لانو كانت الحصيلة رح تكون اكبر بكتير. هدول اللي ماتوا وانصابوا اكترهن كانوا برات الجامع». ثم يقول ان احدهم اخبره عن سيدة سارعت بعد الانفجار الاول في «جامع التقوى» على دوار ابو علي، الى هنا لكي تأخذ والدها من الجامع خوفاً عليه، وأنها كانت تنتظره في الخارج حين انفجرت السيارة المفخخة فبقيت متفحمة في سيارتها.
يخرج فجأة صوت غاضب من مكبر الصوت: «الى الجمهور... نرجو ان تخلوا الموقع بسرعة. يللا ما بدنا حدا هون». يدفع رجل الامن ببعض «الجمهور» الى خلف الاشرطة. الرجال متوترون بالطبع. نعود مشياً من المكان لأنه ما من سيارات اصلا. ما ان نلف الكوع ونصعد باتجاه عزمي حتى نسمع خلفنا اطلاق رصاص بالهواء. يبدو ان قوى الامن اطلقت النار لاقناع من تبقوا بالرحيل. النهار الى غياب. وعلى جدران طرابلس المنكوبة لا تزال نعوات «ابن الموري» طازجة، تكاد تقع من مكانها لسماكة الملصق من النعوات تحتها. تتزاحم النعوات على جدران طرابلس مع ملصقات «اهل النصرة» و«التضامن مع اعتصام رابعة» في مصر. تغيب الشمس في طرابلس على مدينة تلعق جراحها كقطة عذّبها اولاد الشارع الشرسون... بصمت وعجز ويأس. تكاد المدينة لا تموء حتى...