هجروا قراهم الجنوبية، ذات اجتياح إسرائيلي، إلى رحاب أفريقيا الواسعة. منهم من كان له أقارب هناك، سبقوه إلى القارة السوداء قبل نحو 150 عاماً، ومنهم ما كان ينزل تلك البلاد «مقطوعاً من شجرة». مرّت عقود على آخر مواسم الهجرة، صنعوا خلالها ذواتهم مادياً، وجنوا الكثير من المال، فأمدّوا الكثير من البيوت في لبنان، ولا يزالون، بأسباب الحياة. أياديهم على لبنان لا تُحصى، على الدورة الاقتصادية، التي لولاهم، بحسب بعض الخبراء، لكان اقتصادنا أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم.
مرّت عقود قبل أن تطل لهم إسرائيل، مجدداً، بموسادها و«لوبياتها» لتحاربهم في بلاد المهجر، في أفريقيا تحديداً، ساعية عبر الإعلام المحلي هناك إلى خلق صورة نمطية لهم: «إنهم إرهابيون».
مصطفى فواز وعبد الله طحيني وطلال رضا، منذ أكثر من 4 أشهر وهم رهن التوقيف في نيجيريا، بتهمة حيازة أسلحة ضمن «نشاط إرهابي». تهمة، بحسب مقرّبين من الموقوفين، لفّقها لهم الموساد الإسرائيلي. هذا ما أكدّه وكلاء الدفاع أيضاً، بعدما نقلوا عن الموقوفين أن «رجالاً من الموساد، ليسوا نيجيريين ولا أفارقة، هم من تولوا التحقيق معهم مباشرة». بالتأكيد هكذا «ضربات» لا يقتصر ضررها على الموقوفين، بل تشمل كل الجالية التي شعر أبناؤها، بحسب كثيرين منهم، بأن «ما حصل ليس سوى بداية لمسلسل من الانتقام الإسرائيلي، إذ يظنون أنهم بذلك يوجعون حزب الله، وبالتالي لدينا اليوم الكثير من القلق على أنفسنا هنا، وعلى مصالحنا التي بنيناها بالجهد والعرق والتعب على مدى سنين طويلة».
كان بديهياً أن تكون الجالية الإسرائيلية في نيجيريا من أكثر الفرحين بما حصل، خرج الناطق باسم تلك الجالية أزوكا بينشاز أبوكا مطالباً بـ «بعقوبة صارمة ضد الخليّة التي اكتشفت في مدينة كانو شمال نيجيريا، الذين استغلوا كرم الضيافة للتخطيط لاعتداءات شريرة». يا لهذا الإسرائيلي الحنون الذي يكره «الشر»!
رسالة من الموقوفين
قبل أيام، وصلت إلى «الأخبار» رسالة من الموقوفين في نيجيريا، يقولون فيها: «إعلامنا اللبناني مُقصّر معنا، الطرف الآخر يحاربنا بالإعلام في نيجيريا وفي كل العالم، وقد حزّ في قلوبنا وشعرنا بالطعن بعدما عرفنا أن إعلامنا، الذي يفترض أنه من بني جلدتنا، راح يشمت بنا من منطلق نكايات سياسية... هذا الإعلام الخسيس، للأسف، ربما لا يعلم القائمون عليه أن الدور سيأتي على الجميع». وتضيف الرسالة: «لقد حاولوا إذلالنا خلال التحقيق على مدى 14 يوماً. المحققون كانوا من الموساد الإسرائيلي، وقالوها لنا بصراحة: نريد أن نُرّبي بكم كل اللبنانيين في المهجر، وستكونون درساً للجميع. نحن أبرياء من التهمة المنسوبة إلينا، الموضوع كله سياسي، والمنزل الذي قالوا إنهم وجدوا فيه السلاح لا نعلم عنه شيئاً. ما نعرفه أنه فقط لشخص لا نعرف مكانه ولا نعرف عنه شيئاً. إن كنا نؤيد المقاومة، فهذا لا يعني أننا أصبحنا إرهابيين، أي لبناني يمكنه ألا يؤيد المقاومة التي حررت بلاده؟ لقد جئنا إلى هذه البلاد هرباً من كل الظروف الصعبة التي عاشها لبنان من إسرائيل والحروب، تحمّلنا الملاريا وعشنا المخاطر التي لم تكن تحتمل آنذاك، عشنا مع الموت في كل لحظة، وكل ذلك من أجل أن نعيل أهالينا في لبنان. أهالينا الذين تركهم كل العالم واليوم نجد أن جاليتنا هنا تصبح متروكة من الجميع، متروكة لقدرها. نريد من المسؤولين في لبنان متابعة شؤون الجالية، بغض النظر عن قضيتنا، فأقل الوفاء أن لا نُترك وحدنا في مواجهة هذا الظلم».
هي ضريبة المقاومة إذاً، ضريبة الانتماء، ضريبة وطن يلاحق أبناءه بلعنته إلى كل العالم، لكنْ ثمة تفاؤل في الرسالة، إذ يقولون فيها: «لن يستطيع أحد أن يفصل بين اللبنانيين وأفريقيا، نحن عشنا منذ زمن بعيد معاناة الأفارقة وكنا منهم وما زلنا، نحن توأم. اللبناني ليس طارئاً على أفريقيا، لدينا أصدقاء كبروا وعاشوا وماتوا هنا، ومنهم من دفن هنا أيضاً، مثل أشخاص من آل عكر... لقد اختلطت تراب هذه البلاد بعرقنا منذ أمد بعيد».
الجالية في خطر
بعض أبناء الجالية اللبنانية في نيجيريا، ممن عرفوا الموقوفين عن كثب، يقولون إن «التهمة ظالمة جداً. لقد صوّبوا عليهم لكونهم لبنانيين على نحو اعتباطي، وركّزوا أكثر كونهم من الشيعة، مع إشاعة فكرة مفادها أن كل شيعي عضو في حزب الله، عضو مفترض... هذا غير صحيح، كثيرون منّا يؤيدون الحزب لأنه حركة مقاومة، لا أحد ينكر هذا، ولكن أن يقال لأننا أعضاء في الحزب فهذا محض تجنٍّ وافتراء». ليس في وسع أصحاب هذه الكلمات، وهم أحرار اليوم، أن يُصرّحوا بأسمائهم، خوفاً من تسليط الضوء عليهم ومن ثم «فبركة» تهمة لهم لزجّهم في السجون. تماماً مثل ما حصل مع الثلاثة، المعتقلين منذ أيار الماضي، بعدما اتهمهم القضاء النيجيري بـ «الإرهاب».
المدير العام في وزارة المهجرين، هيثم جمعة، يؤكد أن الدولة قامت بما عليها في هذه القضية «من الناحية الدبلوماسية من دون تقصير». ويلفت إلى أن الوزارة، عبر ممثليها، زارت الموقوفين في سجنهم، وكذلك تواصلت مع محامي الدفاع، إضافة إلى استدعاء السفير النيجيري للتباحث، وكل هذا «لا علاقة له بطبيعة اللبنانيين الموقوفين، الذين يحوز بعضهم الجنسية النيجيرية، بل انطلاقاً من كونهم رعايا لبنانيين بالمطلق. الدولة لا تستطيع أن تقف مع أي مواطن يخالف قوانين دولة يعيش على أراضيها، لكننا في المقابل لا نقبل أن يتعرّض رعايانا للظلم، والمسألة التي حصلت في نيجيريا يحسمها القضاء هناك ونحن نتابع أدق تفاصيلها». ويوضح جمعة في حديث مع «الأخبار» أن الوزارة «استدعت كل سفراء القارة الأفريقية لتوضيح الكثير من مواقفنا، كما بعثنا بمذكرات إلى كل تلك الدول، ذكّرناها فيها بأن اللبنانيين هناك هم من صناع الاستقرار، وهم مع تقدم الدول الأفريقية وتطورها من خلال استثماراتهم، فاللبناني يقف وحده خلف ثلث الاستثمارات في كل أفريقيا». ويختم جمعة: «نطلب من كل لبناني في الخارج أن يلتزم بقوانين البلاد التي يكون فيها، ونحن بالتأكيد لن نقصّر وحاضرون معهم دائماً، والمعنيون يعلمون أننا لم نتخلَ عنهم يوماً». هكذا يُلخّص جمعة ما يقوم به انطلاقاً من موقعه، عبر وزارة الخارجية، ولكن لا يخفى عليه أن المسألة أبعد من وزارة أو إدارة، بل في ذهنية الحكم في لبنان تجاه المغتربين منذ زمن بعيد. تلك الذهنية التي تنظر إلى المغترب كـ «دجاجة تبيض ذهباً، فقط، أو كمجرّد آلة تحويلات مصرفية».




لاغتراب بلا سياسة

دعا المدير العام في وزارة المغتربين، هيثم جمعة، كل لبناني في الخارج إلى «عدم الخوض في القضايا السياسية التي يمكن أن تلحق به الضرر، وخصوصاً في ظل تربّص الكثير من أجهزة الاستخبارات، وبالتالي ليقتصر على النشاط الاقتصادي والحضور الفاعل في تلك المجتمعات».
يُذكر أن مستشار الأمن القومي النيجيري، العقيد محمد سامبو داسوكي، زار لبنان في حزيران الماضي والتقى بالمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، للتباحث في شؤون الجالية اللبنانية في نيجيريا. وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن اللواء ابراهيم يتولى اليوم متابعة قضية اللبنانيين الموقوفين في نيجيريا، وذلك انطلاقاً من دور الأمن العام في متابعة القضايا الأمنية الخارجية.