هل من ردّ حضاري إنساني على شتاء الإسلامويين؟ كل الحراك القائم اليوم يبدو محاولات تجريبية للتفاعل مع هذا الشتاء. حتى في الخطين اللذين يمثّلان ردّي الفعل البارزين ضد أن يكون ثوب السباحة في حمامات تونس منّة من ذمة الغنوشي، أو أن يكون قداس الميلاد في القاهرة قمة من سماح محمد بديع...
الخط الأول حسم خياره واستقراره على مكوِّن الخوف من الإسلامويين، وذهب بالتالي إلى المواجهة معهم، على نحو واضح أو مقنَّع. والصحيح أن ضمن هذا الخط قراءات مختلفة، تتمايز في أسلوب التظهير أو التقديم، لكنها تلتقي عند التناقض الأساسي. فثمة كلام مثلاً عن أن من الخطأ اعتبار المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، والمستهدفة بكرة ثلج شتاء الإسلامويين، أرض معركة واحدة. فهي جغرافياً وبشرياً واستراتيجياً مقسومة بوجود إسرائيل. وهي لذلك منطقتان: شمال أفريقيا والمغرب العربي من جهة، والشرق الأوسط الصغير بمتحده المشرقي من جهة ثانية. ويقول أصحاب هذه القراءة إن ما يسري على «المغرب» لا يصح على «المشرق». في المنطقة الأولى قد توجد أكثرية مذهبية تمثّل حقلاً خصباً لسلطة الإسلامويين. لكن في المشرق الأمر مختلف. فلا أكثرية هنا، بل جماعات متساوية القوة والنسبة، ولا قدرة لتعميم نموذج تونس والقاهرة والرباط وطرابلس الغرب. فأقليات الأمازيغ والإحيائيين والأقباط وسواهم بين السويس والأطلسي، ليست هي نفسها الجماعات الوطنية المتكافئة في القوة والحضور، بين شيعة ومسيحيين ودروز وعلويين وسنّة، بين الخليج والمتوسط... باختصار يقول أصحاب هذا الرأي إن المواجهة مع الإسلامويين ممكنة في «المشرق»، وبالتالي يغلِّفون «حلف أقلياتهم» بنظريات وتسويغات لتحسين شروط المواجهة وظروفها.
وفي المعسكر نفسه من يقول إن خيار المعركة ممكن لأن الإسلامويين أنفسهم، فور وصولهم إلى السلطة، سينتجون تفسّخات وتذررات داخل معسكرهم. بين إخوان وإخوان أولاً، وبين إخوان وسلفيين ثانياً، وبين إسلاميين وحلفاء في «الوهم الربيعي» ثالثاً، من ليبراليين أو يساريين أو ديمقراطيين رومانسيين، سرعان ما سيكتشفون فورية تحوّلهم مجرد «قدد» لجسر العبور إلى السلطة، أو حطب أحلام ثوراتهم... ما يسهل لاحقاً وسريعاً عملية المواجهة مع الإسلامويين. هذا الرأي يمثله بوضوح معظم الخطاب السياسي لمسيحيي الأكثرية الحكومية الحالية في بيروت اليوم.
في المقابل ثمة رأي آخر، ينطلق في خلفياته الكامنة والدفينة من الخوف نفسه، لكنه يذهب في التعبير عن ذاته في صيغة خيار «الهروب إلى الأمام»، وذلك بالتماهي مع شعارات «الربيع» والمزايدة في طروحاته، والرهان على مآله ونتائجه. ويحكي أصحاب هذا الطرح، بوضوح وقلق وأمل، أن رهانهم الأساسي هو أن يؤدي الزلزال الحاصل في المنطقة إلى كسر مطلقية الفكر الإسلاموي، على مستوى الاجتماع السياسي ومنطق الدولة وعلاقتها بالدين، وبالتالي إلى نقله في مدى زمني مقبول إلى مرحلة ظهور «بروتستانت» إسلاموي داخل تلك الفئات، تماماً كما حصل مع المسيحية قبل قرون حين كسرتها الثورات وأجبرتها على إنهاء «مساكنتها» مع السلطة. يعتقد أصحاب هذا الرأي أن مرحلة انتقالية في هذا السياق قد تحمل خسائر أو سلبيات، لكن مؤداها النهائي سيكون حتماً زاهراً ومشرقاً. ويمكن إعادة قراءة خطاب كامل لسمير جعجع ليلة رأس السنة الفائتة، يمثّل بامتياز هذا الطرح.
بين القراءتين هل من ردّ أفضل وأمثل؟ يقود البحث عن ثغر الخطاب الإسلاموي إلى تحديد مكمنين قابلين للطعن: الحريات، وفلسطين.
أولاً الحريات لأنها حافز إنساني لا يمكن تجاوزه، ولا تقدر أي أدلجة أخرى على تخطّيه، حتى المقدَّس، خصوصاً متى تزاوجت الحريات مع حافز آخر هو الجوع. هكذا يمكن لثنائيتهما أن تمثّل رأس الحربة المثلى لمواجهة المقدس الإسلاموي.
ثانياً، فلسطين. فالثابت أن في عمق الشتاء الإسلاموي عملية تسووية في إطار الصراع الإقليمي والدولي، على حساب فلسطين.
وذلك انطلاقاً من النظرية الأميركية ـــ الإسرائيلية بأن «السلام القومي» مستحيل، فيما «الصلح الديني» ممكن، إذ ثبت لمحور واشنطن ـــ تل أبيب أن العروبة لا يمكن أن تسالم إسرائيل، بينما يمكن الإسلامويين أن يتصالحوا مع «اليهود»، بذرائع السوابق والتاريخ، فيما جغرافيا القوميات جامدة، لا تتزحزح ولا تتجزّأ. وهو ما ألزم حافظ الأسد البقاء ثلاثة عقود متعنّتاً عند مترين من شاطئ طبرية، فيما عاد أنور السادات مغتبطاً من كامب دايفيد، ومتأبطاً شعار «دولة العلم والإيمان» لإمرار مشروع مناحيم بيغن تحت ستار الدين.
بين حلف الأقليات ـــ خيار الانهيار، وحلف «الرقص مع الذئاب» خيار الانتحار، وحدهما شعاران يختصران الرد الممكن: الحريات وفلسطين، على الأقل كي لا يكون الإسلامبولي قد اغتال السادات ليذهب هو إلى تل أبيب.