يأتي، عبر الهاتف، صوت أحدهم يبلغ بالموافقة على طلب لقاء مقاتلين في «الجيش السوري الحر» في لبنان. يُحدّد موعد اللقاء وزمانه في مكان ما في وادي خالد. يوصي المتصل بضرورة الانتباه الى «عقبة واحدة»: حاجز القوى الأمنية المشتركة من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي المعروف بحاجز شدرا. عناصره يضيّقون على الصحافيين، وفرضوا عليهم الحصول على تصريح دخول من قيادة الجيش. يوصي صاحب الصوت، ذي اللهجة السورية الواضحة، لتجنّب حاجز شدرا، بسلوك طريق ترابي يخترق الوادي قبل الحاجز بعشرات الأمتار.
يطمئن الرجل إلى أن الأمور ستسير على ما يرام. تبدأ الرحلة الطويلة التي تستغرق نحو أربع ساعات، كنا بعدها وجهاً لوجه مع صاحب الصوت الذي تبيّن أنه «ضابطٌ» يتولى مهمات تنسيقية في «الجيش». شاب ضخم في أواخر الثلاثينيات من العمر، يبدو تديّنه واضحاً من لحيته المطلقة وشاربيه المحفوفين.
البرد القارس يلقي بثقله. تتثاقل خطوات المارة. تتصاعد الأنفاس كبخار طالعٍ من فوّهة مدخنة. هكذا هي صباحات الشتاء في وادي خالد، الذي يقال إنه جدّ عشيرة عربية من عرب العنزة، فيما يُروى أنه سمي كذلك نسبة إلى خالد بن الوليد الذي مر في هذه المنطقة بعد معركة اليرموك، فسمّيت باسمه.
الحركة البطيئة في هذه القرى لا توحي بأنها تنطوي على ما أتينا من أجله. نقضي ساعات في أحد المنازل في احتساء أكواب الشاي. ومع كل كوب، يعلو صوت أحدهم: «دمعة»، تعبيراً عن صفاء الشاي. العبارة تخرق بين الحين والآخر النقاش حول الأوضاع في سوريا. يقطع صوت المؤذن النقاش، معلناً موعد أذان الظهر. يهم الحضور الذين ناهزوا العشرة أشخاص بالخروج الى الصلاة. ننحشر خمسة في سيارة وننطلق الى المسجد الذي يبعد نحو عشر دقائق. معظم رواد المسجد سوريون. الشيخ السوري عبد الرحمن العكاري يبدأ خطبته بعظة دينية، لا تلبث أن تتحول إلى حملة تحريض ضد «النظام الذي يقتل إخوتنا ويغتصب نساءنا». يشجّع الشيخ الموجودين على الثورة. يحثهم على عدم الخوف من الموت الآتي. ينجح في استثارة عواطف الحاضرين. يعم صراخ وعويل وتصدح الأصوات بهتافات «الله أكبر لسقوط طاغية الشام». يقول أحدهم إن «زوجة الشيخ استُشهدت أثناء محاولة دخولها لبنان خلسة». ويؤكد آخر أن جنود الجيش السوري قتلوها عمداً بعدما علموا أنها زوجة الشيخ.



بعد الصلاة، يخرج الحاضرون للمشاركة في تظاهرة ضد النظام. لافتات التظاهرة، الحاشدة نسبياً، ترفع شعارات بعضها خطّته أيدي خطّاطين، وأخرى كُتبت كيفما اتفق. شعارات تطالب بإسقاط «نظام الأسد»، وأخرى تتهم مراقبي الجامعة العربية بـ«التواطؤ لسفك دماء السوريين»، وثالثة تطالب بتدخل دولي «لوقف حمام الدم». لحزب الله حصته من الشعارات، ولـ«سيد الضاحية» نصيب الأسد من الهتافات المنددة. مكبّرات صوت تبث أجزاء اقتطعت بعناية من خطابات للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بما يوحي كأنها موجّهة ضد الطائفة السنية. لقناتي المنار والجديد حصة من الشعارات المندّدة أيضاً. رُسم شعارا المحطتين إلى جانب شعاري التلفزيون الرسمي السوري وقناة الدنيا. يقول أحد المتظاهرين: «الإعلام يقتلنا مرتين. فليسقط المنار وليسقط الجديد، عملاء نظام القتل والتهديد». أعلام «سوريا الجديدة» حاضرة بكثرة، بعضها مرسوم بخط اليد، وتتخللها أعلام تركية. وبين هذه وتلك حضور لافت لأعلام تيار المستقبل الزرقاء.
وسط المتظاهرين جنود من «الجيش الحر» بملابس مدنية. ثلاثة منهم تحدثوا الى «الأخبار» سابقاً (5/12/2011). يطلبون عدم إبراز وجوههم في الصور. يخبرنا «مضيفنا» أن هناك «العشرات من عناصر الجيش هنا». تستمر التظاهرة قرابة ساعة، يلفت خلالها إصرار أحد «الهتّافين» على نفي تهم التعاطف مع تنظيم القاعدة. لحظات وتنطلق من مكبرات الصوت عبارة: «إصدارات الفجر تقدم ...». المفارقة أن «الفجر» هو المركز الإعلامي المعتمد لترويج تسجيلات تنظيم القاعدة!
فيما التظاهرة مستمرة، يهمس المضيف بأن «علينا الرحيل بسرعة لأن جماعة المخابرات وصلوا». يحث الخطى، وبعد الابتعاد قليلاً، يشير إلى خمسة شبان يرتدون سترات جلدية. يؤكد أنهم من رجال الاستخبارات اللبنانية، «وكانوا سيوقفونك لو علموا أنك صحافي تقوم بالتصوير من دون تصريح». رجال الاستخبارات معروفون لدى معظم سكان الوادي. يشير أحدهم إلى سيارة رابيد حمراء. هي أيضاً لأحد المخبرين! فيما ننطلق بالسيارة في أزقة الوادي وشوارعه، يشير الرجل إلى المزيد من المخبرين. يذكر أسماء بعضهم واسم الضابط الذي يعملون لمصلحته. «الأمن مخروق وين ما كان». يقول، ويضحك الجميع.


تجتاز السيارة قرى تتشابه إلى حد التطابق. يعلن المضيف «أننا الآن في القرى الأخيرة لوادي خالد». تجتاز السيارة مفترق طرق، الأول يؤدي إلى قرية الكنيسة والثاني إلى قرية قرحة. هذه المنطقة تعرف بـ«الوعر». يمر بعض الوقت قبل أن يطلب الرجل ركن السيارة قرب أحد المنازل. يترجل الجميع. يجري المرافق اتصالاً من هاتفه. تمر دقائق قليلة، تأتي بعدها سيارة رباعية الدفع، ترافقها ثلاث دراجات نارية. يطلب سائق السيارة أن نصعد معه. تشق السيارة طريقها في أرض شديدة الوعورة. يقول المضيف إن «الطريق التي تمشي عليها لبنانية، أما تلك المحيطة بك فسورية». يومئ برأسه مشيراً إلى نقاط للجيش السوري. يخفف السائق من سرعة السيارة إلى أن تتوقف. يترجل الجميع. يطفئون محركات دراجاتهم النارية ويدخلون إلى أحد المنازل. ضوء النهار بدأ ينحسر لتحل مكانه ظلمة الليل.



الجلسة عربية. مدفأة حطب يتحلّق حولها ثلاثون شخصاً. الدار رحبة تتسع لعشرين آخرين. إبريق الشاي تتبعه فناجين القهوة. الضيافة لا تتوقف. يتولى المرافق تعريف الحاضرين بنا. يقول إن الحاضرين «ثلة من ضباط الجيش الحر». يشير الى من يقول إنه «ضابط برتبة رائد، وهو المسؤول بينهم». نتبادل والحاضرين أطراف الحديث. يبدو واضحاً أن الموجودين ليسوا سوريين كلهم. هناك لبنانيون، بينهم مهرّبون. يذكرون أن «قائد العمليات في بابا عمرو» كان موجوداً في لبنان «قبل يومين». يتحدثون عن «ذبائح نُحرت احتفاء بالضيف». يروي «الضباط» قصص «انشقاقهم». يبدون خيبتهم من «خذلان» الموقف الدولي لهم. يؤكد أحدهم أن الدعم «لم يتخطّ المواقف في الهواء». يتسلّم رجل خمسيني يلبس زياً بدوياً زمام الحديث. «الأمور سيئة، وعنف الضربات لم يزحزح النظام بعد»، يقول. يهز رأسه متابعاً: «المعركة طويلة جداً». يؤكّد، رغم ذلك، أن «الجيش الحرّ» يسيطر على ثمانين في المئة من حمص، ويشير الى «الانشقاقات في صفوف الجيش». إلا أن الجيش، بحسب الرجل نفسه، «لا يزال متماسكاً». يعلّق آمالاً كبيرة على «الحظر الجوي»، الذي «بمجرد فرضه ستحصل انشقاقات كبيرة».
لا ينفي أحد الموجودين تدفق السلاح إلى الداخل السوري عبر تركيا ولبنان، لكنه يلفت إلى أن وتيرته «خفّت في الآونة الأخيرة». ويتطرق الحاضرون إلى مقتل الشبان اللبنانيين الثلاثة برصاص الجيش السوري. يروي أحدهم أن مجموعة عناصر من الاستخبارات الجوية دخلت إلى الأراضي اللبنانية وكمنت للشبان الثلاثة، وهم: ماهر أبو زيد وأحمد حسين زيد وشقيقه كاسر. يتحدثون عن «خيانة». شاب من آل الأسود من قرية المشيرفة استدرج الشبان إلى كمين. يقر الحاضرون بأن الشبان الثلاثة «نقلوا سلاحاً الى الثوار، وقدموا الكثير للثورة السورية». يقول أحدهم إن الشباب رفضوا تسليم أنفسهم، رغم علمهم بأنهم وقعوا في الكمين. «واجهوا الرصاص بالرصاص». ينفجر أحد الحاضرين غضباً، ويصرخ مطالباً بـ«تصفية العميل» الذي أصيب في الاشتباك. يقول آخر إن زوجة «العميل» ووالدته زارتاه في المستشفى، فيرد الرجل الخمسيني بضرورة إرسال من يجهز عليه داخل المستشفى.
نخرج مع المرافق الى غرفة ثانية، حيث يعرّفنا إلى ضابط برتب ملازم أول قال إنه سيرافقنا في جولتنا. شاب ثلاثيني ملتحٍ. يطلعنا على «مسار العملية » التي ستبدأ بجولة استطلاع على الحدود. يشرح طريقة التحرك المطلوبة. ويطلب التقيّد بالتعليمات حرفياً. يحضر الشبان تباعاً. يفوق عددهم الـ 20، وكل منهم يحمل سلاحاً. تتنوّع الأسلحة بين رشاشات كلاشنيكوف وبنادق فال. يقول أحدهم إنه يحمل حزاماً ناسفاً. يرمقه «الضابط» بنظرة زاجرة، فيتراجع الشاب ليقول إنه كان يمزح. يرتدي الشبان ملابسهم العسكرية. يحملون سلاحهم ويضعون الأقنعة على وجوههم لإخفاء هويتهم تمهيداً للظهور في الصور.
يصل عدد المنضوين تحت «لواء الجيش السوري الحر»، الموجودين في شمال لبنان، الى مئتي مقاتل. عددهم ليس ثابتاً، يقل ويزيد تبعاً للعمليات التي يوكلون بها داخل الأراضي السورية. هيئاتهم العسكرية لا تظهر للعيان، ملابسهم مدنية توحي بأنهم مجرد نازحين. يتوزعون بين قرى وادي خالد شمالاً وبلدة عرسال بقاعاً. ينشطون في المنازل القريبة من الحدود. يلتبس عليك تحديد هويتهم أحياناً، والتمييز بينهم وبين المهرّبين.

الليل هنا لباس. يتحرّك رجال «الجيش الحرّ» بحرية بالغة. نخرج برفقة مجموعة قوامها تسعة رجال تقريباً. نركب خلف أحدهم على متن دراجة نارية، تنطلق مسرعة في الدرب الوعرة. شدة الصقيع تفقدك الشعور بأُذنيك وأنفك ويديك. يلتقي أفراد المجموعة عند نقطة متقدمة. يركنون الدراجات النارية ويترجلون مشياً على الأقدام. نسأل عن الألغام التي زرعها الجيش السوري، فيجيب أحدهم: «نظّفناها». يوضح آخر أنهم أزالوا قرابة مئتي لغم. لا نطمئن كثيراً. نتلو الشهادتين ونحاول أن نسير على خطاهم، حرفياً، خشية أن ندوس لغماً سقطت إزالته سهواً. نحو عشر دقائق من المسير. يعلن أحدهم «أننا في الأراضي السورية». يومئ مسؤول المجموعة الى موقع للجيش السوري لا يبعد أكثر من عشرات الأمتار. يقول: «نراقبهم عن كثب ونعرف أوقات تبديل الحراس، ونرصد دورياتهم العسكرية ونعلم توقيت تحركها وخط سيرها».
يستخدم أفراد «الجيش الحر» أجهزة الثريا للاتصال مع «القيادة» في الداخل السوري وتركيا. أما خلال العمليات في لبنان فيستخدمون أحياناً أجهزة اللاسلكي. لا تنتهي الرحلة عند هذا الحد. يبلغنا مسؤولهم بأن «الجيش الحر» سيخصنا بمفاجأة لنقلها إلى الرأي العام. يُحضر أحدهم لغماً مضاداً للدروع. ننتقل برفقة ثلاثة شبان إلى نقطة متقدمة، علمنا أنها ممر للآليات المدرعة. يبدأ أحدهم بالحفر، فيما يتولى الآخران الاستطلاع والمراقبة. الأرض تبدو صخرية للوهلة الأولى، لكنه يتمكن من إحداث حفرة فيها. يضع اللغم في وسطها، ثم يهيل التراب عليها قبل أن ينكفئ الشبان الثلاثة متراجعين، آملين أن تنفجر في «كتائب الأسد».




نقص في أجهزة اللاسلكي

يستفيض الجنود المنشقون بالحديث عن الأزمة السورية والنقص الحاد في الغذاء والدواء والسلاح. وعلى رغم توافر الإمكانات المادية، يسرّ أحدهم بأن هناك «أزمة جديدة دهمت الإخوة على جبهات القتال»، تكمن في الشحّ في أجهزة الاتصال، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تبادل لإطلاق النار عن طريق الخطأ بين «الإخوة». يبدي اقتناعه بأن الشح في أجهزة «اللاسلكي»، هو جزء من خطة ممنهجة اتبعها حزب الله لسحب نوع محدد من هذه الأجهزة من السوق. يبرر ذلك بتساؤل عن سبب اختفاء أجهزة اللاسلكي ذات المدى البعيد (٧ واط) من السوق اللبنانية وارتفاع سعرها ارتفاعاً جنونياً، لتحل محلها أجهزة اللاسلكي ذات المدى القريب (5 واط) التي يكون الخط فيها مشوشاً أغلب الأحيان. وبعد الإسهاب في الشرح حول نقص الأجهزة، يسأل مستفسراً: هل تعرف مكاناً لشراء هذه الأجهزة؟



«جيش» لا طائفي وتسميات مذهبية


أعلن ضباط مُنشقون عن الجيش العربي السوري تأسيس «الجيش السوري الحر» في 29 تموز 2011 لدعم المُتظاهرين السوريين وحمايتهم، تحت إمرة العقيد المُنشق رياض الأسعد. وكان قد سبق ذلك إعلان الضابط المنشق المقدم حسين هرموش تأسيس حركة الضباط الأحرار في سوريا. وقد أوقف هرموش الذي يطالب خاطفو الرهائن الإيرانيين بإطلاقه، علماً بأن معلومات ترددت هذا الأسبوع عن إعدامه.
ويتألف «الجيش» من نحو 12 كتيبة، تضم كل منها عدة سرايا. التعداد الحقيقي للجنود المنضوين تحت لواء هذا «الجيش» لا يزال غير واضح. ففيما تتحدث مصادر عن وجود 15 ألف عسكري منشق، تذهب مصادر أخرى إلى القول بأن هناك ثلاثين ألف عسكري يشكلون عديد هذا الجيش. في وقت تؤكد فيه المعلومات المتداولة في الأروقة الأمنية السورية أن عددهم لا يتجاوز الأربعة آلاف.
في سياق مواز، ورغم تأكيد ضباط هذا «الجيش» وعناصره وطنية تحركهم البعيد عن الطائفية، تبدو لافتةً أسماء كتائبه التي تحمل دلالات إسلامية واضحة. فهناك «كتيبة خالد بن الوليد» في محافظة حمص، و«كتيبة الأبابيل» في مدينة حلب، و«كتيبة معاذ الركاض» في مدينة دير الزور، و«كتيبة الله أكبر» في البوكمال، و«كتيبة معاوية بن أبي سفيان» و«كتيبة أبو عبيدة الجراح». وفي هذا السياق، ينفي المتحدث باسم هذا «الجيش» الرائد ماهر النعيمي في اتصال مع «الأخبار» من تركيا البعد الطائفي للتسمية، لافتاً إلى أن «تسمية الكتائب بأسماء قادة تاريخيين كان لإعطاء الزخم والقوة». وأشار إلى أن هناك تسميات أخرى لقادة وشهداء، كـ«كتيبة حمزة الخطيب» في جبل الزاوية.