في وادي خالد وقراه، كما في عرسال وجرودها، ينشط أفراد «الجيش السوري الحرّ» في مجموعات مسلّحة ومنظمة، نسبياً، تتقاسم السيطرة على المعابر في ما بينها. يعقد هؤلاء صفقات مع المهربين لنقل جرحى الأحداث في سوريا ولشراء السلاح وتهريبه، كما يتلقون دعم جهات سياسية نافذة في المناطق التي ينشطون فيها، إلى جانب احتضان شعبي تدعمه نظريات التاريخ والجغرافيا.
يخفي بعض هؤلاء هويتهم الحقيقية تحت غطاء «نازح» سوري. يتوارون عن الأنظار نهاراً وينشطون ليلاً. ولكل منهم وظائفه المحددة. «الأخبار» قابلت عناصر و«ضباطاً» ممن ينشطون ضمن ثلاث مجموعات تعمل تحت لواء هذا «الجيش». تُجمع هذه المجموعات على دعم «الثورة السورية» بأي وسيلة، لكنها تختلف في ما بينها على السيطرة والنفوذ، والاتصال بين مسؤوليها يكاد يكون مقطوعاً، إذ يرى كل منهم أخطاءً في أداء الآخر، واستغلالاً لـ «الثورة» لتحقيق مكاسب فردية.
أمام منزل في إحدى قرى وادي خالد، توقفت السيارتان اللتان أقلتانا والدراجات النارية الثلاث التي كان كل منها يحمل ثلاثة ركاب، بعد صراع مع وعورة الطريق دام بعض الوقت. انقسم الوافدون الذين ناهز عددهم العشرين في بهو المدخل الذي يضم بابين. يميناً، يطالعنا في الداخل ضوء «لوكس»، وسيلة الإضاءة المتقدمة على الشمعة حتى سنوات مضت. ديوانية واسعة تضم ما لا يقل عن ثلاثين شخصاً ينهضون مرحّبين. معظم الموجودين ملتحون، تراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين. يُحضر أحدهم علم «الثورة السورية» ويُلصقه على الحائط استعداداً للتصوير. أحد الملثّمين يبدأ الحديث بالقول: «نحن أفراد الجيش الحر. نعمل بإمرة العقيد رياض الأسعد». هنا المجموعة الأكبر بين المجموعات الثلاث. عدد عناصرها ليس ثابتاً. يزيدون وينقصون تبعاً للمهمة التي توكل إليهم. يصل عددهم أحياناً إلى مئة مقاتل، وقد ينخفض إلى عشرة مقاتلين.
يعرّف أفرادها عن أنفسهم بأنهم أعضاء في «كتيبة الظاهر بيبرس»، ويشيرون إلى أن الضابط الأرفع رتبة بينهم يحمل رتبة رائد.
يُنصت الجميع إلى كلام الملثّم «عمران» كما عرّف عن نفسه. يتبيّن من سياق الكلام أنه «الضابط» المسؤول عن المجموعة. يؤكد أن «غرض وجودنا في لبنان ليس عسكرياً. مهمتنا تقتصر على توفير الأمور اللوجستية»، لكنه لا يلبث أن يشير إلى أن أفراد المجموعة «يشنّون بين الحين والآخر عمليات ضد أهداف داخل العمق السوري». يلفت الى أن «السلاح الموجود بحوزتهم خفيف، لا يتعدى رشاشات الكلاشنيكوف والبنادق الأوتوماتيكية والقنابل اليدوية وقواذف آر بي جي»، إلا أنها، رغم ذلك، «كافية لخوض حرب عصابات». أبرز مهمات المجموعة، بحسب «عمران»، «تتركز على نقل الجرحى» من سوريا إلى لبنان، «بواسطة دراجات نارية، وعلى الدوابّ عبر الطرقات الوعرة، وأحياناً نحملهم على ظهورنا». يشير الى أنه قبل نحو شهر «نقلنا أحد عشر عسكرياً جريحاً إلى الأراضي اللبنانية، ثلاثة منهم فارقوا الحياة بسبب طول الطريق ووعورته». أما في ما يتعلق بتهريب السلاح، فقد «خفّت وتيرته في الآونة الأخيرة»، نافياً حصول مجموعته على السلاح من المهربين، رغم تأكيد آخرين ذلك، ومشيراً الى عمليات شراء سلاح «من الجيش النظامي نفسه داخل سوريا».

يتحدث «عمران» عن تشديد الجيش السوري قبضته على الحدود وزرعها بالألغام، لكنه يؤكد أن ثلاثة خبراء متفجرات، انشقوا عن الكتائب الهندسية والتحقوا بمجموعته، «تمكنوا من تفكيك جزء كبير من الألغام الإيرانية الصنع لتوفير ممر آمن للأشخاص والجرحى، ونحن نعيد زرعها في درب كتائب الأسد»، مشيراً إلى أن «عمليات الرصد والاستطلاع التي نقوم بها تجعلنا على اطلاع على حركة الدوريات وتوقيت مرورها، مما يجعلنا نعمل براحة تامة أثناء تفكيك الألغام أو زرعها».

ينفي «عمران» أي علاقة لهم بتنظيم القاعدة، ورغم إقراره بأن كل أفراد مجموعته من الطائفة السنية، يشدّد على «وحدة الشعب السوري»، مشيراً الى أن «هناك مسؤولين في النظام من الطائفة السنية. وسنحاسب كل من لُطّخت يداه بالدماء. لن يُستثنى أيّ كان من ذلك، سنياً كان أم علوياً». وعن الأوضاع الميدانية، يقول، بثقة، إنها «في مصلحتنا. وكل يوم صمود بمثابة مسمار في نعش النظام»، ومؤكّداً «أننا لن نلقي السلاح مهما طال صمود النظام. إن لم نحم شعبنا، فمن سيفعل؟ الجامعة العربية ببروتوكولاتها أم الدول العربية التي تشاهد جرائم قتل الشعب السوري يومياً على شاشات التلفزة من دون أن تحرك ساكناً؟».
الحكومة اللبنانية، برأي «الضابط المقنّع»، هي «سورية بامتياز»، بسبب «خضوعها لحزب الله التابع بدوره للنظام السوري». ولذلك، «لن تكون لنا علاقة مع هذا الحزب بعد سقوط النظام، إلا إذا تراجع عن موقفه وعنصريته وطائفيته»، مستغرباً «كيف يكون حزب الله لبنانياً فيما انتماؤه المطلق لإيران التي تبعد عنه آلاف الكيلومترات». السؤال عن حزب الله يستفزّ الرجل لـ «يكشف» أن «مجموعات عسكرية تابعة لحزب الله وجيش المهدي (العراقي) والإيرانيين تشارك في المذابح في سوريا»، وأن «عشرات المقاتلين من عناصر الحزب ومن الإيرانيين قُتلوا في درعا وعرضت صورهم على القنوات الفضائية». وعن أدلته على ذلك، يقول «إن لهجاتهم وأشكالهم تعرّف عنهم. فالإيرانيون عربيتهم مكسّرة ولا يحملون أوراقاً ثبوتية. أما مقاتلو حزب الله، ففي إمكان أيّ سوري تمييز اللبناني من شكله»، «كاشفاً» أيضاً أن « في حوزتنا في سوريا أسيرين من حزب الله، أحدهما من آل زعيتر».
مجموعة أخرى من المقاتلين المنضوين تحت لواء «الجيش السوري الحر»، تضم بين ثلاثين وأربعين مسلّحاً، يتزعمها ضابط منشق عن الجيش السوري برتبة رائد يعرّف عن نفسه باسم «أبو سامر». يتركّز نشاط هذه المجموعة، أساساً، على نقل «جرحى الثورة السورية للعلاج في لبنان»، إلا أن بعض أفرادها يهمسون بأنهم ينقلون، أيضاً، أسلحة إلى المقاتلين في الجانب السوري، يقول «أبو سامر»، متهكّماً، إنه «مهرّب جرحى». يتركز عمل مجموعته على نقل الجرحى عبر طرق عرسال ووادي خالد إلى مستشفيات الشمال في حلبا والقبيات وطرابلس. يشير إلى أن «معظم الجرحى الذين يُنقلون بهذه الطريقة هم من العسكريين الذين يستحيل عليهم تخطي الحدود الشرعية»، كما «نعمل على تهريب حقن الكزاز وأكياس الدم»، مشيراً الى أن التنقل عبر الحدود «يكون عادة بعتادٍ عسكري كامل تحسّباً لأي كمين قد يستدعي اشتباكاً مسلّحاً».

أما وسيلة نقل الجرحى، فهي، بحسب «أبو سامر»، غالباً ما تكون «حملاً على الأكتاف ومناقلة بين الشباب». ويضيف: «لن أدخل في تفاصيل الطرق لأنها ستُزرع بالألغام في اليوم التالي». ولدى سؤاله: كم جريحاً نقلت مجموعتك منذ بدء الأحداث؟ يردّ: «يجب إعادة صياغة السؤال ليكون على النحو الآتي: كم جريحاً مات معك على الطريق؟ كم جريحاً انفجرت بهم الألغام؟»، مشيراً الى أن هناك «عشرات الجرحى الذين نزف دمهم حتى الموت في الجبال قبل الوصول إلى الأراضي اللبنانية»، لافتاً الى أن أعداد المصابين «ترتفع أثناء عمليات النزوح من سوريا باتجاه الأراضي اللبنانية، وخلال تظاهرات أيام الجمع تحديداً».
يبدي أعضاء هذه المجموعة، المعروفة باسم قائدها «أبو سامر»، حسّاً أمنياً مرتفعاً. يتكتمون على أسمائهم. يرفضون إعطاء حتى أسماء مستعارة. ويؤكد أحدهم أنهم يستبدلون أرقامهم الهاتفية وهواتفهم دورياً كل عشرة أيام تحسّباً لمراقبة مكالمتهم من قبل الأجهزة الأمنية.
المجموعة الثالثة التي تنشط على مسرح الشمال مجهولة العدد، تعمل في تهريب السلاح والمواد الطبية والكاميرات إلى الداخل السوري. وينفذون بين الحين والآخر عمليات عسكرية في الداخل السوري. يتولّاها ضابطٌ منشق برتبة نقيب يعرف باسم أحمد (اسم مستعار). يروي أنه انشق عن الجيش السوري «بعدما رفضت إطلاق النار على المتظاهرين السلميين»، مشيراً الى أنه نقل عائلته إلى لبنان فور انشقاقه خوفاً من رد فعل انتقامي. وتحدث عن مشاركته المقدم حسين هرموش بالتنسيق مع العقيد رياض الأسعد في تأسيس «الجيش السوري الحر» الذي «تقوم عقيدته على حماية الوطن والشعب لا حماية أشخاص». يسهب الرجل في الحديث عن «انتهاكات وفظاعات تُرتكب ضد المواطنين على أيدي شبيحة النظام الذين يغتصبون النساء ويقطّعون أوصالهن كما حدث مع زينب الحصني». والحصني فتاة سورية بثت بعض الفضائيات قبل أشهر صوراً لجثة ادعت أنها عائدة إليها، وقالت إنها تعرضت للتعذيب والاغتصاب والتمثيل بجثتها، قبل أن تظهر الفتاة في ما بعد على التلفزيون الرسمي السوري لتعلن أنها حية ترزق!
يقطع اتصال هاتفي من سوريا كلام الضابط. ومن دون أن يسأل عن هوية المتصل، يرد على محدثه قائلاً: «الجريح يدعى خالد الأسود»، ويضيف: «13 رجلاً من المخابرات، من المخابرات الجوية دخلوا لتنفيذ العملية ونقلوه إلى المستشفى العسكري حيث يمكث حالياً». يُنصت قليلاً ثم يكمل كلامه: «طلع شبّيح عميل للنظام». كان واضحاً أن الحديث يدور عن مقتل ثلاثة لبنانيين هم ماهر أبو زيد وأحمد حسين زيد وشقيقه كاسر في 27 الشهر الماضي في كمين استدرجوا اليه أثناء عملية لنقل أسلحة الى سوريا.
«الثورة» و«الحرية» وغيرهما من المصطلحات تتردد كثيراً على ألسنة ضباط المجموعات الثلاث ومقاتليها، إلا أن الخلافات والتنافس بينها يبرز نافراً. تضيع المبادئ والعناوين العريضة أمام الخلافات الشخصية. على سبيل المثال، يسرّ لك أحدهم أن زعيم المجموعة الأخرى «يسرق أموالاً تأتي باسم اللاجئين السوريين»، كما يخبرك أن المساعدات التي تصل يقوم هؤلاء بتصريفها وبيعها تحت مسميات عدة أبرزها «جمع الأموال لشراء الدواء والسلاح». يذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك. يكشف لك عن «أمر خطير» محذّراً. فمسؤول مجموعة ثانية «مشكوكٌ في أمره لجهة عمالته» للنظام. «القيادي» نفسه الذي يفصح لك عن هذه المعلومة لا يسلم من التهم المنقولة أيضاً. يخبرك «المسؤول المتهم بالسرقة» أن هذا الشخص «كاذب ومدّع».
وسط الاتهامات المتبادلة، ورغم تواصل هؤلاء مباشرة مع قادة «الجيش السوري الحر» في تركيا والداخل السوري، يشدد أحدهم على «ضرورة إيجاد قائد واحد يكون مرجعاً للتنسيق لحماية الثورة من الدخلاء وعدم إضاعة البوصلة».



متطوعون لبنانيون

يختلط الحابل بالنابل على حدود لبنان الشمالية. تضيع هويات الأشخاص الحقيقية، ويصعب تمييز المهرّب عن العسكري في «الجيش الحر». الانطباع العام الذي يخرج به الزائر هو أنهم شخصٌ واحد، لكن التدقيق يُظهر أن هناك عشرات اللبنانيين ممن انضموا إلى صفوف هذا الجيش.
يبدي هؤلاء تعاطفاً واضحاً مع الجيران السوريين، الذين تجمعهم بهم وحدة الطائفة والجغرافيا. عاملٌ آخر يعزز هذه اللحمة، هو التداخل الحدودي بين البلدين، الذي أنتج روابط عائلية متينة. فعلى سبيل المثال، هناك قرية سورية سكانها لبنانيون. وهناك مواطنون يحملون الجنسيتين. المعلومات المذكورة عززتها تأكيدات مصادر «الجيش السوري الحر»، التي تحدثت عن وجود نحو 100 لبناني منضوين في صفوفه. وذكرت المعلومات أن هؤلاء يشاركون في أعمال عسكرية ضمن الأراضي السورية، تراوح بين نقل السلاح وتنفيذ عمليات عسكرية في العمق السوري.
يذكر أن أربعة لبنانيين قتلوا، الأحد الماضي، خلال كمين نصبه الجيش السوري في بلدة تلكلخ السورية. وأشارت المعلومات إلى أنهم من بين اللبنانيين المشاركين في العمليات العسكرية ضد النظام السوري.



مفكّك ألغام لبناني

قبل وصول اثنين من خبراء المتفجرات الذين يعملون لمصلحة «الجيش السوري الحر» إلى الأراضي اللبنانية، كان أفراد هذا «الجيش» يستعينون بشاب لبناني مقيم في وادي خالد. البداية كانت عندما تطوّع الشاب لتفكيك أحد الألغام المزروعة. عندها قرر الجنود المنشقون الاستعانة به لتفكيك الألغام الباقية، لكنه طلب منهم أجراً يومياً مقابل الاستمرار في العمل.
وما لبث أن تراجع عن قراره. فعرض عليهم تفكيك الألغام مجاناً شرط حصوله على الألغام التي سيفككها. رفض عناصر «الجيش الحر» عرضه، لأنهم يريدون إعادة زراعة الألغام التي يفككونها في طرقات تسلكها دوريات الجيش النظامي. فعرض عليهم أن يعيد تركيب الألغام التي يفككها أفراد «الجيش الحر » مجاناً ، مقابل احتفاظه بالألغام التي يفككها بنفسه. أما سبب إصراره على الاحتفاظ بالألغام، فيعود إلى أن سعر اللغم يبلغ قرابة 400 دولار أميركي بحسب الشاب نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن خبير الألغام اللبناني يحتفظ في منزله بقرابة مئة لغم تمكّن من تفكيكها عن الحدود اللبنانية السورية.