وجّه الجيش السوري إنذاراً إلى السكّان المدنيين في بابا عمرو في حمص دعاهم فيه إلى إخلاء البلدة في غضون 48 ساعة، في إشارة مباشرة إلى استعداده لاقتحامها بعد انقضاء مهلة الإنذار. دفع الجيش إلى هذه الخطوة بقاء البلدة حتى هذا الوقت خارج سيطرته، واعتقاده بأن المسلحين الذين يتوغلون في أحيائها يتخذون من الأهالي ــــ وقد يكون بعضٌ من هؤلاء مَن يؤيدهم ــــ عائقاً دون مهاجمتها. وبعد استعادته السلطة على ريف دمشق والزبداني تماماً، ومعظم ريف حمص، يمضي الجيش في استكمال خطة يسمّيها الضبّاط الأمنيون الكبار في النظام «تنظيف» المدن والبلدات من المسلحين، ستكون حلقتها الثالثة، الثقيلة الوطأة بدورها، في ريف إدلب.
اتخذت أهمية مهاجمة الأرياف الثلاثة وتصفية مسلحيها الذين ينتمون إلى التيّارات السلفية ــــ وهم الأكثر تنظيماً وفاعلية وخطراً على النظام ــــ والإخوان المسلمين لكونها على تماس مباشر مع الحدود اللبنانية والتركية. إلا أن الرئيس السوري، في ضوء اجتماعاته بالقيادات العسكرية، أكد قراره عدم السماح بمناطق نفوذ مغلقة وبؤر يسيطر عليها المسلحون. وقد بات الصدام بين هؤلاء والنظام، وتفاقم العنف، الواجهة الفعلية للأزمة السورية بعد تراجع حركة الاحتجاجات السياسية السلمية جراء التصعيد العسكري.
والواضح، كذلك، أن جانباً مهماً من الأزمة التي اجتذبت إليها تأييداً روسياً غير مسبوق، يكمن في تحوّلها إلى حرب شوارع.
وكان قرار الحسم الأمني في صلب المحادثات التي أجراها الرئيس بشّار الأسد مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية ميخائيل فرادكوف. في أكثر من محور في المحادثات تطرّق الجانبان إلى الحسم ومراحله واستعجاله. وهو الحسم الذي كان قد باشره النظام في 26 كانون الثاني من ضمن ضوابط نصحت بها موسكو، بعدم المغالاة فيها، بعد نصيحة مسبقة، قبل تفاقم التصعيد العسكري الأخير، بتفادي الحسم.
في مداولات محادثات دمشق في 7 شباط أبرَز الوزير الروسي اهتمامه بالمراحل التي قطعتها استعادة الجيش سيطرته على البلاد، وأظهر دعماً غير محدود للنظام السوري في مسألتين على الأقل: التوقيت الملائم للحسم الأمني بغية تفادي أوسع انتقاد عربي ودولي له، طاوياً بذلك دعماً صريحاً لحسم أحداث حمص بعد 12 شباط، وتأييده إبقاء المسألة السورية في مجلس الأمن بغية أن تضع موسكو، بالفيتو، يدها عليها وتحول دون أي الإجراءات التي تشجع واشنطن وأوروبا والغرب عليها ضد نظام الأسد.
تكشف عن ذلك بعض وقائع من محادثات الأسد مع لافروف في حضور فرادكوف، كالآتي:
قال الأسد: تدرك سوريا أن الفيتو الأخير في مجلس الأمن يرتّب على روسيا والصين أعباءً تعرف جيداً مقدارها، ولا سيما على العلاقات الدولية والإقليمية للبلدين، لذلك نحن مستعدون لمساعدة روسيا في ما تطلبه منا، وأن نوضح كل النقاط في كل المسائل التي تساعد على جبه الهستيريا الدولية التي نتعرض لها.
استفسر لافروف عن الوضع الأمني في سوريا، فردّ الأسد: أضرّ وجود بعثة المراقبين العرب بسوريا من خلال استغلال المجموعات المسلحة هذه المهمة بالتمدّد واستهداف القوى الأمنية حتى وصلت إلى مشارف دمشق، ما حتّم علينا القيام بعملية عسكرية محدودة لاستعادة هيبة الدولة وعدد من المناطق. وقد أعدنا الأمان إلى معظم مناطق ريف دمشق وتبقى منطقة الزبداني التي نعمل عليها، ونركز جهودنا الآن على حمص.
وشرح للافروف التركيبة المذهبية والسياسية لحمص، وقال: لم يعد في مقدور الدولة الوقوف على الحياد في القتال الدائر بين مختلف أحياء حمص.
أضاف الأسد: لا يزال الجيش حتى الآن غير موجود في حمص، بل إن قوات حفظ النظام هي التي تتولى تأمين المدينة. لكن هناك حاجة إلى عملية نوعية وقصيرة للجيش لوقف القتال بين أحياء المدينة.
لافروف: ما هي المدة المطلوبة؟
الأسد: ستكون قصيرة وجراحية.
طلب لافروف تأجيلها إلى ما بعد اجتماع وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية (12 شباط) كي لا تستخدم ذريعة لاتخاذ مواقف تصعيدية.
استجاب الأسد لطلب الوزير الروسي الذي طلب أيضاً عدم استخدام الأسلحة الثقيلة؛ لأن ذلك يمثّل ضغطاً على روسيا؛ لكون هذه الأسلحة من صنع روسي.
الأسد: لم تستخدم أسلحة ثقيلة في كل العمليات العسكرية الجارية منذ بداية الأزمة. الآليات المجنزرة التي تشاهد هي في الحقيقة ناقلات جند BMV، وتحتوي على رشاش واحد فقط.
عند تطرّق المحادثات إلى الحوار الداخلي في سوريا، طلب لافروف من الأسد التفويض إلى شخصية سورية صلاحيات واسعة لإدارة هذا الحوار، فردّ الرئيس السوري بأنه سبق له أن فوض إلى نائبه فاروق الشرع هذه المهمة بمرسوم جمهوري.
استوضحه لافروف إمكان أن يتولى هو إعلان ذلك رسمياً في الإعلام.
الأسد: لا مانع.
قال لافروف إن روسيا تجري اتصالات مع المعارضة، ولا سيما الداخلية، لحملها على المشاركة في الحوار المأمول في موسكو.
استوضح فرادكوف مسوّدة الدستور السوري الجديد، فردّ الأسد: هناك لجنة مكلفة البحث فيه، ويتضمن مشروع الدستور الجديد ما تطلبه المعارضة، وهو تحديد ولاية رئيس الجمهورية باثنتين في حد أقصى، وبإقامة نظام تعددي حزبي، بحيث يمثّل الحكومة الحزب الذي ينال الأكثرية في مجلس الشعب.
فرادكوف: كم يستغرق ذلك؟
الأسد: نحو شهر في حد أقصى.
طلب فرادكوف تقصير المدة إذا أمكن، فوعده الرئيس السوري بذلك.
قال لافروف إنه كان مع توسيع مهمة بعثة المراقبين وزيادة صلاحياتها. وافق الرئيس السوري على إبداء مرونة حيال توسيع صلاحياتها وزيادتها.
الأسد: بعد الفيتو الأخير، لا أرى لزوماً لأن تبقى القضية السورية في مجلس الامن. أفضّل إعادتها إلى الجامعة العربية.
لافروف: لا بأس من بقائها في مجلس الأمن، لأن ذلك يعطي روسيا قدرة على إبداء موقفها. لو لم تطرح القضية في مجلس الأمن لما أمكن روسيا استخدام الفيتو في التصويت. لا بأس من بقاء القضية في مجلس الأمن.
وافق الأسد: لا مشكلة ما دام ذلك يساعد روسيا على الإمساك بهذه القضية بما يراعي مصالح سوريا.
أبلغ لافروف إلى الرئيس السوري أن روسيا تعمل على تعاون إقليمي روسي ــــ تركي ــــ إيراني حول الملف السوري، وأن الإيرانيين يجرون مساعي مع تركيا ترمي الى تحييدها.
وقال: هناك سعي إلى إنشاء مسار تركي ــــ روسي ــــ إيراني في هذا الصدد.
الأسد: هذا منحى مفيد، رغم أن التصريحات الأخيرة لأردوغان وأوغلو لا تنم عن ذهاب تركيا في هذا الاتجاه. غير أن سوريا ترحب بهذا الجهد، وهي مستعدة لإنجاحه.
طلب فرادكوف من سوريا نشر معلومات عمّا يجري على الأراضي السورية، واستوضح ما يُشاع عن إلقاء القبض على أجانب يقومون بأعمال مسلحة على الأراضي السورية.
الأسد: لدينا أدلة نقوم باستكمالها تشير إلى بعض الأشخاص، ليبيين وعراقيين، شاهدهم بعض المراقبين العرب. وما دمنا لم نلقِ القبض عليهم، فإننا ننتظر استكمال المعلومات.
استوضح فرادكوف ما يتردّد من معلومات عن تمويل خارجي للأحداث السورية وتهريب أسلحة من دول الجوار.
ردّ: لدينا كذلك أدلة. لكننا لا نزال نجمع الإثباتات الناجزة.
اهتم الوفد الروسي بنشر هذه المعلومات فور استكمالها.