عندما احتدم النقاش حول ما يجري في سوريا، دخلت «الاخبار» أزمة مقاربة مهنية وسياسية، ذهب البعض الى حد وصفها بالأزمة الأخلاقية. طبعاً هناك قرّاء ممن لهم الحق بالاحتجاج على أي شيء. المشكلة في اصرار «مدّعي الابوة»، ممن يحاولون منذ عقود عدة، قبل الحرب الاهلية وبعدها، بناء خلية حزبية ولا يفلحون. فتراهم، الآن، افتتحوا مختبراً اضافياً لفحص الدم النقي. ويمنحون انفسهم حق الوصاية على «الاخبار»، ومعهم بعض المريدين ممن أفاقوا على الدنيا على مبدأ الثقافة السمعية، فلا هم اختبروا الحياة أو تعرفوا على ناسها وأبطالها، بل اكتفوا بسماع روايات وعلى هديها يسيرون. مرت الأيام، وبدأت الصورة تنجلي على امكانية تجاوز هذه الازمة، بقدر معقول من الخسائر. لكن الاساس ان «الاخبار» تحاول الاحتفاظ بصورتها الاكثر وضوحاً، والتي لا لبس فيها الى يوم الدين: صورة مقاومة كل مشروع للغرب الاستعماري يد فيه!. هذه حال جريدة، فما هي حال وسيلة اعلامية تملك نفوذاً يوازي نفوذ دول وامبراطوريات سياسية، مثل قناة «الجزيرة»؟ لن ينشغل احد في مناقشة قناة «العربية». فهذه مولود غير مكتمل النمو، وصعب ان يكتمل نموه، طالما حبل سرّته موصول الى افكار آل سعود وجيوبهم. هؤلاء، لا يخرج من عندهم الا الظلام، حتى ولو استخدموا كل اضاءات العالم في تلوين صورة شاشتهم.
اليوم، صار امراً عادياً ان تتلقى اجابات من نوع: هل انت جاد في سؤالي عن خبر مصدره الجزيرة؟ هل انت منطقي وتستند في روايتك الى اخبار من «الجزيرة»؟ هل انت راض عن نفسك وانت تعمل في «الجزيرة»؟ هل بمقدورك رفع صوتك او تسجيل اعتراضك وانت تعمل في «الجزيرة»؟ هل انت فعلا ممن يخسرون ساعات امام شاشة «الجزيرة»؟
اليوم، صار عادياً ان تتلقى يومياً عشرات الروابط التي تدلك على فضائح مهنية وسياسية وأخلاقية باتت ملازمة لما تبثه «الجزيرة». أما الغرابة والدهشة، فهي فقط عندما يقال لك: هل شاهدت امس كيف حاول مذيع الجزيرة احراج هذا الضيف من معارضي النظام في سوريا؟
الجديد، هو انك تجد اليوم معارضين كثراً للنظام في سوريا، خصوصاً الناشطين في لجان التنسيق المحلية، يرفضون اي محاولة لتحميلهم مسؤولية ما تبثه «الجزيرة». هم لا يهاجمون القناة، او يدعون الى مقاطعتها، بل يقرّون بأنها تدعم بقوة معارضي النظام، لكنهم لا يريدون تحمل مسؤولية ما يصفه احدهم بـ «الكوارث اليومية، الناجمة عن مقاطع مفبركة، او مسجلة خصيصاً للقناة لقاء بدلات مالية، او الناجمة عن اطلالات لشخصيات لا احد يعرف من اي مكان هم، ولا باسم من يتحدثون، ولا بأفكار من ينطقون. او حتى محاولة تكبير حجم القمع فتكون النتيجة قمعاً نفسياً حقيقياً».
والجديد، انه يصعب عليك مقابلة صحافي محترف يدافع عن اداء «الجزيرة». ليس في سوريا فقط، بل في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين أيضاً. وأنه يصعب على صحافيين كبار، كانوا يهتمّون فعلاً بالظهور على شاشة «الجزيرة» فصاروا يعتذرون فقط، لأنهم يدركون أنهم باتوا مجرد ادوات في لعبة قذرة... هل سأل احد، مثلاً، عن سبب توقف التعاون بين «الجزيرة» ومحمد حسنين هيكل؟
كذلك فان الجديد، هو ليس في استقالات من هم قادرون على الاستقالة من المحطة من دون أن تكون لذلك آثار مادية على حياتهم، خصوصاً ان ما تدقعه القناة للعاملين فيها اكبر بأضعاف مما قد يحصلو عليه في قنوات اخرى. بل الجديد، في حجم الاستقالات، الفعلية والمكتومة، التي تجعل الفريق الناشط في المحطة يقتصر الآن على مجموعة تعاني ضائقة اخلاقية ومهنية منذ زمن بعيد. وحيث يظهر، يوماً بعد يوم، انه تم اقصاء كل من لا يقبل بعمل لا يستند الى الحد الادنى من المهنية والصدقية، وان آخرين فقدوا حماستهم لتقديم الافكار، او التورط في مشاريع عمل، وصاروا مجرد موظفين، يدعون الله صبح مساء ألا يتم تكليفهم بكارثة اضافية.
لكن مشكلة «الجزيرة» ليست في موقفها السياسي، وهو حق لها. بل في انها وجّهت ضربة الى كل محاولة حقيقية لبناء اعلام قوي ومستقل الى حدود مقبولة. وانها لا تقبل النقاش في مآلها اليوم، وانها تعود بنا الى زمن اعلام «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وانها تشكك في خلفية موقف كل من ينتقدها، وانها تدافع بسذاجة عن اخطاء قاتلة، وترفض في الوقت نفسه الاقرار بما سماه احد اركانها «العذر المنطقي» لما يحصل اليوم، وهو «اننا ننفذ سياسة الجهة المموّلة لنا ونقطة على السطر».
طبعاً، لن تؤدي مقاطعة بضعة ملايين للقناة الاكثر شهرة عربيا، الى جعلها تعاني ضائقة شعبية. لكن المشهد الاعلامي بات، بفعل سياسات «الجزيرة»، في حاجة الى من يهزه ولو قليلاً. وهي مهمة من لديه القدرات والامكانات المالية والبشرية على انتاج اعلام اكثر مهنية، واكثر قدرة على الدخول الى عقول المتابعين، واثارة الجدل في دواخلهم. ومن لديه القدرة، ليس فريقاً او جهة او دولة او مجموعة صحافية. بل كل هؤلاء، ممن يعانون التردد يوماً بعد يوم، ويقبلون بمنازلة «الجزيرة» من خلال اعلام اقل مهنية واقل صدقية منها. وكل من يتأخر عن اتخاذ القرار، يكون فاقداً للمعرفة الواضحة، بأن الاعلام يبقى، حتى اشعار آخر، وسيلة الهجوم، او الدفاع الاولى، في معركة الرأي العام.