كلامهم لا يخلو من «قطع رأس أو نحر رقبة». تسأل عن سبب اختيار الذبح وسيلة للقتل، فيأتيك الجواب بأن «الرصاصة خسارة في الكلاب الشاردة». هكذا هم دوماً، يتحدثون عن الآخر بشبق الدم. يفاخر أحدهم بذبح من هو من طائفة أخرى وعن غارات ليلية ينفّذونها دورياً للخطف، فضلاً عن الحواجز التي تفصل بين القرى لاصطياد «الدخيل». في محلة أبو سمرا في طرابلس، ثمة مستشفى يشغله بأكمله جرحى سوريون، يُحضرون إلى لبنان بطرق غير شرعية. معظمهم مقاتلون أصيبوا في معارك مع الجيش السوري. يُنقلون إلى هنا حيث الأمن والأمان، فالمستشفى يحظى بحماية أمنية معلنة. يتولّاها أربعة مسلّحين، بورديتين صباحية ومسائية. لا يقاس الزمن بالأيام هنا، بل بأعداد الجرحى الذين يُدخَلون. لا يكاد يمر يوم من دون إدخال 4 أو 5 جرحى. أحياناً يصل الرقم إلى 25 جريحاً. المستشفى المذكور ليس الوحيد الذي يستقبل الجرحى السوريين، لكنه الوحيد الذي يحظى بـ«سيطرة» الجيش السوري الحر.
في المشفى الكائن في أبو سمرا كانت الجولة كالمعتاد. هنا جريحٌ يُعصّب رأسه بعلم «الجيش الحر». يرفض الحديث إلى الصحافة. يجلس بقربه شابان يردّان التحية ويعتذران عن استقبالنا. في الغرفة المجاورة، يستلقي جريحان ملتحيان. أحدهما مصابٌ في بطنه ورجليه، فيما إصابة الآخر في عينه. وجهاهما مألوفان. جمعتنا معرفة سابقة. بناءً عليها، يستقبلك الرجلان. تُهنّئهما بالسلامة وتدخل لتجلس. الرجلان معروفان وسط الموجودين بكنية أبو علي وأبو أحمد. هما قياديان في «الجيش الحر». يتولى الأول إدارة العمليات في منطقة القصير الحدودية، فيما الثاني شقيق المسؤول العسكري أبو عمر دندشي الذي قُتل في واحد من اشتباكات تلكلخ (في حوزة «الأخبار» مقطع مصوّر يوثّق المقابلة). تعلم أن الرجلين أُصيبا خلال اشتباكات وقعت في الليلة الماضية قرب المنطقة الحدودية، ولحراجة إصابتيهما اضطرّا إلى دخول لبنان. دخل برفقتهما 3 مسلّحين، فوصلوا إلى طرابلس قرابة منتصف الليل. كان يُفترض أن يُجري أبو علي عملية جراحية لأمعائه التي تمزّقت من شظية أصابته. فقد كان يودّ العودة إلى بلاده في الصباح الباكر، لكن الطبيب أرغمه على البقاء يوماً إضافياً كي ينال قسطه من الراحة.
في اليوم التالي للعملية الجراحية حدث اللقاء. يتحدث أبو علي عن أحوال المقاتلين في الجانب السوري. يسرد مجريات المعارك، فيتطرق إلى تفاصيل الهجوم الذي أصيب فيه، لافتاً إلى أن مجموعة مؤلفة من تسعة مسلّحين نفّذته ضد مركزٍ للجيش السوري. يقول أبو علي إنه كان ضابطاً في الاستخبارات السورية برتبة رائد، لكنه انشق ليدير عمليات «الجيش السوري الحر». هيئته الخارجية وتصرّفاته تشيان بأنه متشددٌ دينياً. تسأله إن كان يحكم توجّهاته ميلٌ أُصولي فيجيبك: «لم أكن كذلك، لكني صرت الآن». يتحدث عن «تخلي المجتمع الدولي عنّا، باستثناء الإخوة في الدين». تسأله عن الحرب الطائفية فيؤكد أنها قائمة. يوجّه أصابع الاتهام بتأجيجها لأطراف ثلاثة هم: «نظام الأسد وحزب الله الشيعي وإيران». يتحدّث عن «بدء طرد (أبناء طائفة محددة) من القرى السورية»، وعن تصفية نحو مئة من أبناء تلك الطائفة في ليلة واحدة. يُسمّي القرية التي حصلت فيها العملية، مؤكداً أنها جاءت ردّاً على قتل «20 شابّاً من أهلنا» في قرية مجاورة. يرفض الحديث عن تعايش، فذلك «صار من الماضي. نحن الآن في حرب. يقتلون إخواننا ويغتصبون نساءنا ويذبحون أطفالنا». يُردف قائلاً: «العين بالعين والبادئ أظلم، لكن تعاليم ديننا تردعنا عن اغتصاب نسائهم. حُكمهم القتل ذبحاً أو بالرصاص». بدوره، يتحدث أبو أحمد، القيادي في «كتيبة الفاروق»، عن «فرَق موت تشكّلت للأخذ بالثأر والانتقام من أعداء الدين». يتحدث عن قيامه وبعض رفاقه بذبح الرجال. يُكرّر قصصاً وفظائع سردت بعضاً منها صحيفة درشبيغل الألمانية في حين ما خفي أعظم. فنون القتل كثيرة، واللافت في ناقلها حديثه ببرودة دم. يسرد أكثر من حادثة. تسأله عمّا يحصل لنساء وأطفال «الضفة الأخرى»، فيردّ بأن القتل يستهدف «حصراً الرجال الذين يعتدون علينا».
الرجلان المذكوران عيّنة من أشخاص تؤويهم مستشفيات لبنان ومراكز الإغاثة التابعة للحكومة اللبنانية. المؤكد أن بينهم رجالاً وأطفالاً ونسوة أبرياء هربوا من جحيم المعارك الدائرة في بلادهم. والمؤكد أيضاً أن بينهم مقاتلين معارضين للنظام، من الواجب مداواة جراحهم. لكن من المؤكد أن بينهم أيضاً مقاتلين يفاخرون بالجرائم التي يرتكبونها بدم بارد، من دون أن يسائلهم أحد عمّا يقومون به. وبعض هؤلاء يهدد بالانتقال إلى العمل ضد جزء من اللبنانيين بعد الإجهاز على النظام في سوريا.
إزاء هذا الوضع، وانطلاقاً من الانقسام السياسي، انتفض عدد من الوزراء على طلب وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور «تخصيص 100 مليون ليرة لوزارة الشؤون الاجتماعية لصرفها على موظفي الوزارة الذين يهتمون بملف النازحين في غياب أي مراكز للهيئة العليا للإغاثة لاستقبالهم وتدبير أمورهم وتقديم المساعدات الضرورية لهم ». استغرب وزير الثقافة غابي ليون أن «يقدم لبنان مساعدة لشخص يتباهى بأنه يمتهن الذبح». يرى ليّون أن «كل إيواء وتسهيل هو تدخل غير مباشر بالقتال»، إذ إنه «يوفّر الراحة النفسية للمقاتل». ليس هذا فحسب، فقد ذهب ليون أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن «تسهيل الإيواء وتوفير الغذاء هو مشاركة في القتال». وإذ أكّد ليون «أننا لسنا ضد إسعاف أي جريح»، حمّل القوى الأمنية مسؤولية ضبط الحدود، متسائلاً: «ليست كل سوريا مضطربة، فلماذا لا ينزحون إلى القرى الهادئة في بلادهم». وأشار ليون إلى أن تقديم مساعدة من هذا القبيل من شأنها أن تفتح باباً يستحيل على الدولة اللبنانية إغلاقه.
من جهته، أكد وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور، أن معظم الحالات التي يجري استقبالها مدنية، لافتاً إلى أن نسبة الرجال متدنية. وتساءل أبو فاعور قائلاً: «عندما يُقدم النازح نفسه على أنه مدني كيف يمكن أن أعلم إذا كان مشاركاً في معارك؟».
وعن إجراء تحقيق يساعد في تحديد خلفية النازح، أشار أبو فاعور إلى أن المسألة ليست من اختصاص الوزارة، طالباً إبقاء الموضوع بشقّه الإنساني بعيداً عن الانقسام السياسي.
ويوم أمس، أقيم في السرايا الحكومية اجتماع برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، بهدف تنظيم عملية إغاثة النازحين السوريين، بحضور أبو فاعور والأمين العام للهيئة العليا للإغاثة إبراهيم بشير الذي أكد لـ«الأخبار» أنه لم يتلقّ «معلومة واحدة من الجانب السوري تدّعي استفادة عناصر من الجيش الحر»، مشيراً إلى أنه «فتح تحقيقاً لتحديد ما إذا كان هناك مقاتلون استفادوا من تقديمات الهيئة».
على المستوى الأمني، ثمة قرار بعدم توقيف أي جريح. لكن اللافت أن أحداً لا يسائل الجرحى، بعد شفائهم، عن دورهم في ما يجري في بلادهم. يقول أمنيون لبنانييون إن «الأجهزة الأمنية اللبنانية لا تستطيع تمييز الجريح المدني من الجريح المقاتل، والمقاتل العادي من الجزار ». وبناءً على ما تقدّم، لا توقف السلطات اللبنانية غير المطلوبين للقضاء اللبناني، ولا تتدخل في شؤون غيرهم، إلا من يُضبطون حاملين الأسلحة عبر الحدود.



فرق استقصاء «العواينية»

كثُرت المجموعات المسلّحة التي تدخل الأراضي اللبناني آتية من سوريا. فهي تتوزّع على عدة فرق تتنافس في ما بينها. فهناك المنشقون عن الجيش السوري النظامي الذين يؤلفون ما يُعرف بالجيش الحر. وهناك «الجماعات السلفية التي تقاتل تحت راية الإسلام لإعلان الإمارة في سوريا أو في قرية ما في سوريا». يضاف إليهم المسلّح المتعاطف مع الجهتين. أعداد القادمين من سوريا كبيرة، تناهز العشرين ألفاً. جزءٌ منهم منضوٍ أصلاً في واحدٍ من الصفوف، فيما هناك ملتحقون جدد يصار إلى استقطابهم. الأرقام الكبيرة سمحت لعناصر من استخبارات الجيش السوري باختراق هذه المجموعات كمخبرين. يُطلق عليهم «العواينية»، أي أعوان النظام. ساهم هؤلاء في فضح كثير من الخطط لعمليات عسكرية كان المسلّحون بصدد تنفيذها. من هنا، خرجت فكرة «مجموعات استقصاء» تتولى مراقبة المشتبه في «عمالتهم» للنظام، ومن يُضبط منهم يوقَف في مراكز احتجاز داخل لبنان، قبل أن يُنقل إلى سوريا وتجري تصفيته.