ليست صورة البلد هي التي تجبر رئيس الجمهورية على اخراجها في جولاته وصولاته، ولا هي تلك التي يشدّها اليه وزير الداخلية كما يشد ربطة العنق الى رقبته، بل هي تلك التي تخرج كل مرة من المجلس النيابي. «التضليل الاعلامي»، «كذاب»، «شو هالكذب»، «شو هالاكل الخـ...»، «انا قرفت»، «فجور»، «ليش هاشوا؟»، «شو الو علاقة هيدا؟»، «بستحي كون قاعد بهيك جلسة»، «وضع الخازوق بين السني والشيعي»، «اقعد واسمع» ، «بلا اخلاق»، «عقلاتك بالقلب»، «معلمك كذاب»، وغيرها وغيرها من العبارات التي يطلقها النواب بعضهم بحق بعض، وكل طرف بحق الآخر.
هي الصورة الحقيقية للبلاد، ونواب الامة لم يأتوا لاستجواب الحكومة، او لعرض تقصيرها، ولو حظيت الحكومة بنصيبها من الشتائم المبطّنة، والانتقادات اللاذعة، الا انها تعرضت لها بصفتها مشجباً تعلق عليه الاحتجاجات والاعتراضات، وترمى بالتقصير دائماً في خدمة مواطنيها.
طبعاً شتم الحكومة والحمل عليها ممر إلزامي لكل النواب تقريباً، او اغلبهم لبدء شن هجومهم على الطرف الآخر، وان كان فريق الرابع عشر من آذار يهمه اظهار «فشل الحكومة»، فهي في الواقع لم تسجل فشلاً اكبر من الحكومات السابقة، بل يمكن اعتبارها حافظت بجدارة على المستوى نفسه من الفشل المتكرر منذ سنة 2004، الا انها تدير التفليسة الوطنية، لما اتت به النظريات الرائعة في تأسيس الجمهورية الثانية منذ العام 1991 وحتى العام 2004.
والمهم في خطابات النواب انها موجّهة الى ناخبيهم لا الى الحكومة، ولا الى رئيس المجلس النيابي، ولا لمحاسبة اي جهة على ما اقترفت ايديهم، فالكل شركاء في ما وصلت اليه الحال، والعديد من نواب اليوم سبق ان شارك في تلقي هدية تأسيس شركة اعادة اعمار البنى التحتية للوسط التجاري لمدينة بيروت «سوليدير» ومن ذلك الزمن والى اليوم لا يزالون يشاركون في المنهبة المفتوحة في البلاد عبر التشريع وانعدام الجدية في المساءلة.
كل ما نسمع وما نشاهد هو ما يعتقد نواب الامة بحق ان ناخبيهم يرغبون في رؤيته وسماعه، سواء كانوا من تيار المستقبل او من التيار الوطني الحر، وسواء استخدموا لغة الشتائم او ترفّعوا عن هذه اللغة الى لعبة الموعظة الحسنة واسداء النصح والتغني بالتعايش والوطن وغيرها من الخطابات الجوفاء في ظل التنازع الداخلي.
وما سرد مجموعة من المطالب والشؤون المحلية الا تكرار لمطالب سمعها النواب من ناخبيهم ولم يحركوا ساكناً من اجلها، بل اكتفوا بتردادها امام الشاشات ليسمع ناخبوهم كيف نطقوا بألسنتهم وطالبوا بمطالبهم ونادوا بها عبر المنابر، من دون ان يعني ذلك اي شيء على الاطلاق، فلا النائب تبنّى المطالب، ولا الحكومة ستحرّك ساكناً.
الحكومة، من جهتها، غير معنية جدياً بالتفاعل اللحظي مع كلمات النواب، فكل من في الحكومة يعلم يقيناً انه كوزير، او كحكومة، غير معني لا من قريب ولا من بعيد بكل هذه الخطابات التي تصل الى مسامعهم مرفقة دائماً بخلفية لدى الوزير او رئيس الحكومة. الخلفية هي من هو المتحدث، ولماذا يقول ما يقوله، وما يمثله المتحدث، ووضعه المالي والانتخابي، الى آخر ما هناك من معطيات كافية لتصل الكلمات الى اذن الوزير او رئيس الحكومة برداً وسلاماً.
يخدع المرء نفسه حين يستمع الى خطابات رئيس الجمهورية، او وزير الداخلية، فالثاني اصدر بالامس قراراً يتعلق بميثاق شرف حول مواكبة الهيئات المدنية للانتخابات البلدية الفرعية، فتخيّل ان وزارة الداخلية تحاول وضع ميثاق شرف لمراقبة انتخابات بلدية فرعية، وتضبط عمل المراقبة غير الحكومية، بينما يتحدث النواب في المجلس بأحطّ العبارات ويتهمون بعضهم بعضاً بما لم يقله مالك في الخمرة.
رئيس البلاد يتحدث من ناحيته عن الانتخابات في وقت قد لا تحصل اصلا، وقد لا تصل البلاد اليها وهي بأفضل حال، ويبشّر مواطنيه المغتربين في استراليا، الشاعرين ولا شك بحنين صادق لبلدهم الام الذي لم يتسع لهم ولا لغيرهم من المهاجرين، فذهب اليهم الرئيس ليخبرهم بأنه يصر على اصلاح قانون الانتخاب، وانه مصر على عدم العودة الى قانون 1960 ولا يوافق على ان ينتخب المسلمون نواب المسيحيين (ولا العكس)، وانه سيعمل ليشارك المهاجرون في الاقتراع.
الصورة التي يحاول المسؤولون اظهارها في يومياتهم العادية وخطاباتهم خارج البرلمان لا تكاد تمثل احداً، ولا حتى قائليها. ما يمثلنا فعلاً هو المستوى النيابي المبتذل، فهؤلاء يبتذلون من انفسهم وبكلامهم لأنهم يعتبرون انهم فعلاً يمثلون ناخبيهم.
خَرْجْنا.