في طرابلس، إنه زمن رفع «المظلومية عن أهل السنة». القيادات السياسية التقليدية في المدينة لا علم لها ولا خبر عن هذا الموضوع. مظلومية؟ هل سمعها أحد من قبل تصدر في بيان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أو في رسائل التوترة الخاصة بالرئيس سعد الحريري، أو على لسان الرئيس عمر كرامي أو نجله الوزير فيصل؟ هذه القيادات في مكان والشارع الطرابلسي بات في مكان آخر. تخلّى هذا الشارع عن زعاماته واستبدلها بـ«مشايخ» و«أمراء»، هذا باعتراف مسؤولين في تيار المستقبل.
الرئيس سعد الحريري هو الخاسر الأكبر، حتى الآن، في طرابلس. بوجوده في السلطة أو خارجها لم يتحسّن موقع الطائفة السنية في الدولة، الأمر الذي ترك «أبناء البلد» في إحباط شديد دفعهم إلى تغيير بوصلاتهم باتجاه آخر: الإسلاميون والسلفيون. على الأقل هذا ما يقوله الشيخ سالم الرافعي.
الأخير يتحدث بكل وضوح عن وقوع المستقبل بـ«العجز»، فالتيار «لم يستطع حمل هموم الناس». أية هموم؟ كل هموم الدنيا: الوضع الاقتصادي الضاغط، غياب الدولة والآفاق، والأبرز من كل هذا في الساحة الطرابلسية المظلومية التي يشعر بها جزء من الاهالي. وهو ما يفسّره الرافعي على الشكل الآتي «نحن نُعتقل ونُخطف ولا نُحاكم». وفي أداء الدولة أيضاً، تقصيرها في حماية المواطنين، في احداث 7 أيار مثلاً.
هذه «المظلومية» تدفع الناس إلى حضن المشايخ، السلفيين والإسلاميين. هذا ما يؤكده الشيخ الرافعي دون أن يبذل أي جهد في حديثه.
ويمكن تلخيص الواقع الذي يشير إليه بقوله: «عند كل مظلمة، يلجأ الناس إلينا والناس تبحث عمن يخلّصها، شعرت بتحوّل غريب في الشارع. الناس يشعرون بأنهم ضعفاء، وفعلياً المستقبل أصبح ضعيفاً».
الرافعي وغيره من المشايخ في طرابلس يتحدثون عن سياق «المظلومية اللاحق بأهل السنة» منذ سنوات، إلى حين انفجار الأوضاع في قضية الشاب شادي المولوي. بعد الحديث عن 7 أيار وخروج الرئيس سعد الحريري من السلطة وكل ما رافق هذه الفترة من «ضغوط على الطائفة»، يتوقف المشايخ عند أهم أحداث عام 2012.
في 28 كانون الثاني الماضي، أوقف جهاز الاستخبارات في الجيش الشيخ عبد الله حسين على «خلفية إصداره فتوى تحرّم الدخول إلى الجيش». يدافع المشايخ عن زميلهم، وأول المدافعين الشيخ الرافعي الذي يؤكد أنّ تلك الفتوى لم تدع إلى المس بالجيش أو قتاله، إنما فقط إلى عدم الانخراط فيه. على اثر هذا الاعتقال، نظّمت القوى السلفية والإسلامية «اعتصاماً سلمياً» للمطالبة بالإفراج عن الشيخ حسين، فتحركت في البداوي والتبانة وغيرها من أحياء طرابلس. بعد ساعات على اعتقاله، تم الإفراج عنه، الأمر الذي ترك أثره على الساحة الإسلامية باعتبار أنه لم يكن من داعٍ لتوقيفه سوى توجيه الرسائل.
يضيف المشايخ أنّ التوقيفات المماثلة تتابعت في الأشهر اللاحقة، فكذلك كانت حال توقيف الشاب طارق مرعي، الذي ترك الكثير من البلبلة على الساحة الإسلامية في طرابلس. وبحسب المشايخ العارفين بأمور المدينة، انه عند اعتقال أو «خطف» شادي المولوي «كانت الارضية مهيأة ومعدّة للانتفاض على أداء الدولة، وكان الشارع جاهزاً للتحرك سريعاً، وهذا ما حصل».
هذا ما يؤكده الشيخ الرافعي الذي يبدي كغيره من المشايخ السلفيين، «واقعية شديدة» في التعامل مع قضية المولوي: «ما حصل خطف والتحقيق لم يكن منصفاً وكل ما طالبنا به هو تصحيح الخطأ، وفي حال تبين أنّ شادي مرتكب فلن نتمسك به لثانية، لكن عليه أن يحاكم بالعدل ويحاسب بالحق».
يجتمع كل المشايخ السلفيين على هذا الموقف، مبدين دعمهم للاعتصام المستمرّ في ساحة النور. لكن ماذا عن الأحداث الأمنية التي لحقت بالاعتصام؟ يسارع الشيخ الرافعي إلى التبرؤ من الاشتباكات والأحداث الأمنية، رغم أن الشرارة الأولى لإطلاق النار انطلقت في ساحة الاعتصام، إذ تعرّض المعتصمون ورجال الأمن لإطلاق نار من سيارة أدّى إلى إصابة جريحين.
يؤكد الرافعي على دوره التهدوي للمعتصمين، إذ شدّد على العمل السلمي «لنبقى في أماكننا ونتابع حركتنا سليماً، وإذا أرادت آليات الجيش أن تدهسنا فلتفعل». حضرت إلى الساحة مجموعة من المسلحين، أوقفها الرافعي كما يقول ووجّهها: «إذا أردتم حمايتنا عودوا إلى بيوتكم».
ما يسرده الرافعي يناقض حديث عدد آخر من المشايخ والعالمين في الشأن الإسلامي في المدينة. هؤلاء يؤكدون «قوة الشيخ الرافعي وتأثيره على الشارع الإسلامي»، وأخطر ما يقولونه أنّ «مجموعات مسلحة تتلطّى وراء عباءة الرافعي، وبدوره، يحاول الأخير قيادة عمل هذه المجموعات».
الرافعي يتحدث عن قوة سلمية التحركات: «عشنا عشرين سنة في أوروبا وتعلّمنا أنّ أقوى أسلوب للتعبير عن الرأي ومواجهة السلطة هو في التحرك السلمي». لكن مع تقدّم النقاش، يصل الشيخ إلى لحظة دخول الجيش إلى شوارع جبل محسن، فيشير إلى أنّ قيادة الجيش اتّصلت به وبلّغته دخولها وطلبت وقف إطلاق النار من جانب باب التبانة. وفيما تقول قيادات محلية في باب النبانة عن دور حقيقي للرافعي في قيادة المجموعات المسلحة، يشير هو بنفسه إلى هذا الأمر من دون أن يقوله حرفياً، إذ يضيف: «بعد هذا الاتصال، قمت بالاتصالات اللازمة وعممت ما قيل لي».
يمكن استخراج خلاصة: للمشايخ علاقة ومونة على المجموعات المسلحة، ولهذه المجموعات حاجة إلى غطاء ودرع يجسّده المشايخ.
يبرر الرافعي بدوره بكل وضوح حمل «أهل السنة» للسلاح، فـ«الدولة لم تستطع حمايتهم في بيروت، واليوم امتدّت 7 أيار إلى طرابلس، فلماذا لا يحمي الأهالي أنفسهم»؟ يستكمل حديثه عن مظلومية الطائفة مشيراً إلى «أخطاء الدولة وحزب الله»: «الدولة ضعيفة ولا تستطيع حمايتنا، إذاً عليها الاعتذار والاستقالة». وثمة مشكلة أهم لجهة الدولة، وهي في كونها «غطّت أخطاء حزب الله». لدى الرافعي وغيره من المشايخ تفسيرات واضحة لما تعيشه الطائفة، «حزب الله يدعم جماعته وحلفاءه ويمدّهم بالسلاح»، يقدّمون الأمثلة كالحزب السوري القومي الاجتماعي، والشيخ بلال شعبان، والشيخ هاشم منقارة وغيرهم. هذا الدعم «أشعر ناسنا بأنّ هذه المجموعات باتت قوية وتقوم باستفزازنا»، وبالتالي «لماذا يسمح لغيرنا بأن يحمل السلاح ونحن لا؟ ما دفع الشباب إلى التسلّح فردياً للدفاع عن أنفسهم».

هم أناس عاديون

الجلوس لأول مرة مع مشايخ سلفيين يحمل رهبةً خاصة. فهذه الجلسة مطبوعة بالكثير من التعميمات والصور النمطية لأصحاب اللحى الطويلة وآرائهم المتشدّدة حول الكثير من الأمور الفردية والعامة. لكن بعد دقائق، يظهر المشايخ في صورة عادية؛ هم يناقشون، يصغون، يبتسمون، يضحكون. يقدمون الليمون والفواكه في مجالسهم. بعضهم حاد الطباع وبعضهم الآخر هادئ.
مواقفهم السياسية عادية، يمكن سماعها على لسان أي مسؤول في 14 آذار، وبالتالي لماذا عدم القبول بها في حال صدرت عن شيخ سلفي؟ مثلاً الموقف من حزب الله، مطابق لموقف الرئيس سعد الحريري: «يجب الفصل بين الطائفة الشيعية وحزب الله، الشيعة طائفة كغيرها في البلد لها الحق بالعيش باحترام والمشاركة في السلطة والحكم»، أما حزب الله «فالمشكلة معه هو في انقلاب سلاحه المقاوم، الذي دعمناه في مواجهة إسرائيل، إلى الداخل. فعاد هذا السلاح وانقلب علينا». يضيفون إلى خطاب الحريري أمراً إيجابياً: «يمكن لحزب الله العودة إلى الدولة والطائف، تحديداً في موضوع السلاح، وفي حال كان له أو لأي طرف رغبة في مناقشة أي طرح يمكن فعل ذلك، نحن جاهزون لمناقشة كل شيء بما فيه المثالثة في الحكم».



«أنا قلبي على الجيش»

عاد أمس شارع سوريا سالكاً أمام السيارات والمشاة، ولو أنّ أي سيارة لم تشته السير فيه واقتصر المارون على شباب باب التبانة الذين أخذوا بمعاينة آثار الحرب الصغيرة. آليات الجيش التي انتشرت في هذا الشارع وفي أحياء باب التبانة وجبل محسن تركت شارع سوريا في قيلولة أمنية. ما يحدث على هذه الجبهة ليس سوى هدنة. الحذر بادٍ على عناصر الجيش والاحتقان يحافظ على مستواه في صفوف المقاتلين في التبانة. يؤكد كل العارفين بأوضاع هذه الجبهة أنّ «السلم لن يدوم» طويلاً، ومخرج انتشار الجيش «ليس سوى حل مرحلي». حال سوق الخضر الفاصل بين مثلث الجبل والباب ومنطقة أبي سمرا كانت شبيهة بشارع سوريا، باستثناء أنّ أحد التجار نزل ومد «بسطته» بحثاً عن مواطن مقطوع من حبة بطاطا!
هشاشة الوضع الأمني في المنطقة ظاهرة من خلال عدم مبادرة عناصر الجيش إلى إزالة الدشم التي مركزها المقاتلون، رغم انتشار قوى الجيش في شوارع وزواريب لم تطأها أقدام «أميرية» سابقاً، إضافة إلى الانتشار في مبان يستخدمها المسلحون للقنص. والهشاشة واضحة أيضاً من خلال أحاديث عدد من مسؤولي المجموعات المسلحة: «اتصل بي الرئيس نجيب ميقاتي وقال لي إن الجيش سيدخل، أجبته: فليدخل شو بفتحلو بيتي؟». حتى المشايخ السلفيون أبدوا تعاطفاً مع الجيش: «والله قلبي على الجيش، هم في الوسط ويتلقون النيران من فوق ومن تحت». وكانت الاشتباكات صباح أمس قد أدت إلى وفاة الفتى عبد الرحيم محمد حمد (11 عاماً) ووقوع 8 جرحى، في مشهد تكرر في كل أحياء المدينة حيث تمرّ سيارات يطلق منها مجهولون النار.