عندما أعلن وقف النار في سوريا في 12 نيسان، قيل إن الجهود الديبلوماسية تسابق العنف كي تحلّ محله. بعد انقضاء أكثر من شهرين على ذلك الموعد، فُقد الأمل ــ أو يكاد ــ بجدوى السباق بين المسعى الديبلوماسي والاستخدام المزدوج للقوة. وبات العنف وحده، حتى الآن على الأقل، هو الرهان الذي يتبعه النظام والمعارضة المسلحة على السواء. ولكل منهما حساب مختلف حياله. بيد أن ذلك يشير أيضاً إلى أن كلاً منهما فقد تماماً القدرة على المبادرة والسيطرة على مسار الأحداث والفوضى التي تسبّبت بها، وعلى موقعه فيها.
وشأن ما حدث في لبنان، وربما هذه المرة قد يصبح أكبر بكثير ممّا عرفه لبنان في سني حربه، لم تعد سوريا بين أيدي السوريين، ولا أضحى في وسع الطرفين المعنيين ــ وكلاهما عاجز عن الحسم الأمني ــ التراجع خطوة إلى الوراء، ولا التقدّم خصوصاً خطوة إلى الأمام، بلا كلفة باهظة عليه، وعلى البلاد.
تعزّز هذا الانطباع بضع ملاحظات يلتقي عليها تقاطع المعلومات والتقييم الذي يجريه أكثر من حليف رئيسي لسوريا في لبنان، مع ما يستخلصه هؤلاء ممّا يرد إليهم من الداخل السوري. وكله موسوم بالتشاؤم:
أولى الملاحظات، التقييم الذي يجريه حلفاء رئيسيون لسوريا في لبنان حيال تطور الوضع هناك بعد انقضاء 16 شهراً على اندلاع الأحداث، من غير أن يقودهم أي من التوقعات التي حسبوها على مرّ هذا الوقت. بات الحلفاء متيقّنين من أن سيطرة نظام الرئيس بشّار الأسد على الأرض لم تعد حقيقية، وأن حال النظام ليست على ما يرام. ولا يحملهم ذلك على ترجيح سقوطه قريباً أو استيلاء المجلس الوطني على السلطة، أو انهيار الجيش حتى.
أصبح الحلفاء العائدون من دمشق يسمعون من المسؤولين السوريين الكبار، وأخصّهم الأمنيون المعنيون بحماية النظام وكذلك المعاونون البارزون، يتحدّثون عن أنهم يمرّنون أنفسهم على أزمة طويلة الأمد، إلا أنها تنتهي عندما يتوقف تمويل المعارضة وتسليحها. يقول هؤلاء إن العنف قد يستمر سنة أو أكثر من سنة للقضاء على المعارضة المسلحة، ويتجاهلون كلاماً سابقاً ساقوه قبل أشهر هو توقعهم انتهاء حقبة وظهور أخرى يخرج منها النظام قوياً.
بينهم مَن يقول إن النظام سيرفع من وتيرة العنف في الأسابيع المقبلة بغية فرض خلل في توازن القوى القائم حالياً وتضييق رقعة سيطرة المعارضة المسلحة. بين هؤلاء مَن يضع مهلة تمتد إلى نهاية تموز، يأمل النظام والجيش إبّانها في إحداث تغيير كبير في خريطة النزاع والعنف والانتشار في البلاد.
ثانيتها، رغم أن المسؤولين السوريين لا يكتمون لجوءهم إلى أعتى الأسلحة كالقذائف المدفعية والدبابات والصواريخ واستخدام رشاشات المروحيات في مواجهة المعارضة المسلحة، إلا أن اكتشاف ظاهرة خطيرة في الفترة الأخيرة بدأ يبعث على القلق لدى النظام والجيش والاستخبارات العسكرية خصوصاً، وهي فرار عسكريين من قطعهم مع دباباتهم إلى صفوف المعارضة، سواء لدى الأخوان المسلمين أو الجيش السوري الحرّ. ومع أن حال الفرار هذه، المقترنة بالاستيلاء على أسلحة وأعتدة ثقيلة وفاعلة في المواجهات، لا تزال صغيرة، إلا أنها أضحت واقعاً يُخشى تناميه. الأمر الذي حمل الاستخبارات العسكرية على اتخاذ مزيد من الإجراءات الاحترازية كي لا يؤول السلاح الثقيل إلى المعارضة، ويفتح ثغرة بالغة الدقة في تماسك الجيش ومنشآته وقواعده وثكنه.
ثالثتها، اعتقاد الحلفاء اللبنانيين بأن خطر التدويل شقّ طريقه فعلاً إلى الأزمة السورية التي خرجت من مقدرة النظام ومعارضيهم على التحكّم بها. لا يقتصر هذا الظنّ على حزب الله وشركائه الآخرين في التحالف مع سوريا، بل راح يعكسه المناوئ الرقم واحد للنظام في لبنان، رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي بدا في الأيام الأخيرة أكثر حذراً في التعامل مع ما يجري في سوريا، ويعيد هو الآخر تقييم الموقف منها ومن نظامها بما لا يعيده بالتأكيد إليهما، إلا أنه يجعله أكثر تحسباً لتداعيات ما قد يصيب لبنان من تفاقم الحرب هناك.
أبلغ جنبلاط موقفه هذا إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ووجّه به إشارة إلى حزب الله، ولمّح إليه في اجتماع طاولة الحوار الوطني الإثنين عندما تحدّث عن إدخال في سوريا «لعبة الأمم». ليست المرة الأولى يستخدم جنبلاط هذا التعبير. قاله في خضم الأزمة بين قوى 8 و14 آذار بين عامي 2005 و2008، محذّراً من أخطارها على مصير لبنان.
بعد تناقض عميق في الموقف من سوريا منذ 9 حزيران 2011، عندما زار جنبلاط سوريا للمرة الأخيرة وقرّر مذ ذاك تأييد المعارضة ضد نظام الأسد والتحريض على إسقاطه وتأليب الدروز السوريين على التخلي عنه، بدأت ملامح تلاق غير متعمّد بينه وبين حزب الله حيال تقييم ما يجري الآن في سوريا: تراجع جنبلاط قليلاً إلى الوراء وتوخّى الانتباه في إطلاق النعوت والمواقف والتهديدات والعبارات القاسية ضد الأسد ونظامه وتوقعه سقوطه في أيام مرة، ووصول المعارضة إلى السلطة قريباً مرات أخرى. وتقدّم حزب الله بدوره خطوة إلى الأمام عندما بدأ، بتعقّل، يراجع موقفه من المعارضة ويحضّها على الحوار من غير أن يقترب منها حكماً أو يتخلى عن حليفه وهو النظام. كمَنَ القاسم المشترك غير المباشر بين جنبلاط وحزب الله في أن الأزمة السورية تحلّها صفقة أميركية ــ روسية. لا العرب ولا الغرب، ولا النظام ولا معارضوه.
صار الفريقان اللبنانيان يتحدّثان عن التعاطي مع ما يجري في سوريا بعيداً من ممالأة هذا الطرف السوري أو شتم الآخر. لا النظام ولا المعارضة، وترقب ما ينتظر سوريا. كلاهما تيقّن من أنها أُدخلت فعلاً في «لعبة الأمم». باتا أكثر قلقاً على تداعيات ما يجري هناك على لبنان. وهو سرّ تمسكهما ـ وخصوصاً جنبلاط ـ بحكومة الرئيس نجيب ميقاتي وبطاولة الحوار الوطني، واستيعاب أهمية الابتعاد بالوضع الداخلي اللبناني عن الحدث السوري.
رابعتها، أن تسلّح المعارضة يتزايد بوتيرة أسرع ممّا كان يتوقعه النظام بسبب ما يعدّه «مزراب» الخارج الذي يمدّها بالمال والسلاح على نحو غير مشروط. بيد أن الأمر لم يعد يقتصر على المعارضة المسلحة بقواها المختلفة، والمشتتة في كل حال، بل نشأت منذ أكثر من شهر، في ظلّ التسيّب وتدهور الأمن وانهيار هيبة السلطة والاستخبارات والجيش، عصابات تحوّل تفريخها إلى كوابيس حقيقية تطاول النظام والسكان، وقد تفشّى انتشارها من غير أن يكون ثمّة ترابط بين شللها.
أخذت هذه العصابات، بالأسلحة والمتفجّرات التي تملكها، تزرع الرعب في بعض أجزاء العاصمة وريفها، وأيضاً في مدن سورية أخرى، عندما راحت تبتز المتموّلين والصناعيين والتجّار الكبار للحصول على أموال ضخمة تحت طائلة نسف متاجرهم ومؤسّساتهم ومبانيهم أو إحراقها أو نهبها. وبعدما كان المتموّلون هؤلاء يلوذون بالأجهزة الأمنية لتعزيز نفوذهم ومواقعهم والحفاظ على استثماراتهم، باتوا في مرمى العصابات المسلحة، العاملة على نحو مستقل عن المعارضة. أمست «القوة الثالثة» التي تشيع الفوضى.
وردت معطيات أخرى ذات منحى مختلف من مصادر متشعّبة من الداخل السوري وخارجه عن وضع الوزير السابق والتاريخي للدفاع في سوريا مصطفى طلاس، الذي يقيم في باريس لأسباب تتجاوز الدوافع الصحية، وأن نجلي طلاس، فراس وناهدة، يعملان أيضاً من باريس ضد النظام. ورد في المعلومات كذلك أن الرئيس السابق للأركان العامة العماد أول حكمت الشهابي غادر دمشق قبل أقل من شهرين إلى باريس واستقرّ فيها، من غير أن يتخذ موقفاً مناوئاً للأسد والنظام الذي ساهم في صنعه عقوداً طويلة، إلا أن أحد أبنائه يتخذ من العاصمة الفرنسية أيضاً مقرّاً لإقامته وتحرّكه ضد النظام السوري. ولعل أهمية هذه المعلومات أنها تتناول رموزاً تاريخية رافقت النظام وحمته، وباتت اليوم في وضع التنصل منه او الانقلاب عليه، مما أحال التركة أكثر ثقلاً على الرئيس السوري.