قبل موعده ببرهة وصل صبّار الشام هذه السنة. مثل كل زائر دمشقي، تحدوه دماثة الياسمين ووقار قاسيون على التبكير دقائق احترام، أو كأن سخونة الزمن الشامي لوّحت أكوازه بشمس ثانية، فأنضجته على مواقيت رمضان. صبار الشام، أو «الصبير»، يملأ ساحاتها ولعاب الأطفال. لم يأبه لتوتر أو خطر. فلش بسطاته في منتصف الليل، وابتكر زحمة السير في غير موعدها: فانوس شامي متقد، بضع كراس متواضعة مستحدثة، فاكهة كأنها من جنة، وأحاديث تمتد على طول «معاقل» الصبار، من المزة حتى المتحلق الجنوبي.
لا تصدق أن هذه العاصمة نفسها التي حكى عنها الإعلام قبل أيام فقط، قصة ثورة ومعارك وأراض محروقة. تسأل بائع الصبير عن مصدره. فيجيبك فوراً: حصاد المزة نفد سريعاً. الآن نزلت مواسم دروشة وخان الشيخ ودير العدس من ريف دمشق. أليس الريف نفسه الذي يروى أنه صار في ما يشبه «دولة أخرى»؟ يضحك ذابح الأكواز اللزجة وهو يشرح: جاء الجيش فنظّف المزارع من «المخربين»، وبقي الصبار على حاله. بعده جئنا نحن فنظفنا السهول من أكوازها الشوكية، وتبقى سوريا على حالها... هكذا هي دمشق هذه الأيام. تتسقّط آخر أخبار حلب. يقولون إنهم كانوا يتوقعون اندلاع المعركة هناك، خصوصاً بعد فشل «محاولة انقلاب 18 تموز». تحاول استيضاح التسمية، فتبدأ الرواية:
لم يكن مجرد انفجار ما وقع في الشام صبيحة ذاك النهار، بل كان إشارة الانطلاق لسلسلة طويلة من عملية انقلاب أُعدّت بدقة واحتراف مطلقين. أولى حلقات المخطط كانت مع تدبير مغادرة مناف طلاس لسوريا يوم الاثنين في 2 تموز، تمهيداً لإسناد دور إليه بعد الانقلاب. اللعبة أكبر منه طبعاً، وأكبر من كل «البلديين». حتى الأتراك لم يكونوا على علم بكامل المخطط. يعرفون الأجزاء المطلوب منهم تنفيذها لا غير. فعندما انتقل مناف إلى تركيا ـــ على عكس الادّعاءات اللاحقة ـــ اتصل به الأتراك لتأمين مواعيد له مع رسميين. فاعتذر وطلب ترك ذلك إلى مرحلة لاحقة. قالوا له إن في إمكانهم تدبير زيارة تأييد له من معارضين سوريين تابعين لهم، فرفض أيضاً. تصرف معهم على طريقة «أنني معدّ لدور أكبر، ولمّا تأت ساعتي بعد»... أردوغان نفسه روى ذلك لإياد علاوي، مستغرباً تصرف طلاس، لا بل مستنداً إلى ذلك ليشكّك في حقيقة نياته. وهو ما أطلق يومها حملة التشكيك في «ألان ديلون الجديد»، كما سمّاه وليد جنبلاط، في أوساط كثيرين من المعارضين «السوريين الأتراك».
يوم 18 تموز ظهرت سلسلة المخطط كاملة: في لحظات تزامنت أحداث كثيرة وكبيرة، لا يمكن ربطها بأي مصادفة. انفجار خلية الأزمة في العاصمة، انطلاق مسلحين في بعض أحياء دمشق، محاولة إسقاط معابر حدودية، تحركات إسرائيلية معادية، أخبار عن انشقاقات دبلوماسية، وحرب إلكترونية شاملة يستحيل ألا تكون معدة مسبقاً، وأطلقت بكبسة زر. مئات مواقع الإنترنت ووسائل الإعلام تردد الشائعات: مقتل ماهر الأسد، بشار هرب إلى اللاذقية، زوجته باتت في موسكو... حتى إن مواقع «صديقة» تم «تزحيطها» في اللعبة، فنشر بعضها لنصف ساعة خبراً مفاده أن «الجيش السوري قرر بعد الانفجار تنفيذ خطة إعادة انتشار تكتي صوب الساحل السوري»...
أما في عاصمة القرار، فالوضع كان مختلفاً. في غضون أقل من ساعتين تم التعرف إلى منفّذ الهجوم وزارع العبوة. الكاميرات الموجودة في المكان ومحيطه سمحت برسم خط بياني للعملية. والمعلومات المجمعة تشير إلى أن سيارة كانت في انتظاره لنقله فوراً إلى حرم سفارة غربية أو أخرى إقليمية قريبة من الأولى في دمشق. متورط آخر بات في قبضة السلطات، ومعه كل الرواية. بعد ساعات اتضح للانقلابيين أن الضربة الموجعة لم تقض على «سلسلة القيادة والتحكم»، لا في الأمن ولا في العسكر، كما أن عمليات الشغب في دمشق لم تدفع الشاميين إلى ركب موجة شعبية تجتاح كل شيء، كما كان يأمل «الانقلابيون»، بل العكس تماماً، عندها تأكد فشل المحاولة. فصدرت التعليمات لمناف بالخروج من «خندقه الثوري» في منتجع سان بول دو فانس الفرنسي الفاخر وبالظهور إلى الإعلام، إذ لا جدوى من التخفّي بعد. والأهم الانتقال إلى «الخطة ب»: الهجوم على حلب ومنها، في آخر وسيلة لفرض السيناريو الليبي على سوريا. أمر واحد مؤكد في معركة حلب، أن نتيجتها لن تظهر قبل فترة طويلة نسبياً. سوى ذلك كل الأخبار صالحة للنشر من الطرفين: المعارضون متفائلون بالحشود التركية والطريق الموصول بها، وبخط الإمداد الجهادي الزاحف من هناك. الموالون متفائلون بإنذار إيراني حاسم لأنقرة بعدم التورط، وبدور كردي لا يشكل فيه البرزاني غير استثناء هامشي. أيّ التفاؤلين على حق؟ يستحيل الجزم، لكن الواضح أن معركة حلب ستخطئ نبوءة إشعيا: «ها إن دمشق تزال من بين المدن فتكون ركاماً من الأنقاض».