قبل موعد الإفطار بساعات، يجلس مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني في صالون منزله. يتابع شؤون دار الإفتاء، ويتصل بالمسؤولين في الدار ليسأل عن عدد المدخنين. فقد وصلته دراسة عن المواد السامة التي يحتويها فلتر السيكارة. يقول إنه سيمنع التدخين في الدار؛ لأنه «حرام ومؤذٍ». بعيداً عن هموم دار الإفتاء، يتحدث المفتي، بصراحة، عن كل شيء. بنبرة هادئة عكس تلك التي يصدح بها على المنابر، يجيب عن «خلاف تيار المستقبل معي»، مؤكداً أنه لا «خلاف لي معهم». يشرح تفاصيل الخلاف من البداية. يقول: «كان عندي موقف لم يرضَ عنه تيار المستقبل، لكن الاختلاف في الآراء لا يصل إلى حد التشهير. تيار المستقبل شهّر بمفتي الجمهورية كثيراً». بداية الخلاف كانت عندما «اتخذت إجراءً إدارياً بتوقيف تكليف الشيخ أسامة الرفاعي في عكار عن الإفتاء لأمور إدارية. خرج أحد النواب ليقول: «لا تصلوا وراء المفتي»، فيما رأى آخر أنني منتحل لصفة مفتي الجمهورية». يصمت قليلاً، ويتساءل: «لا أدري، هل لديهم تفكير سليم؟ كيف يتصرفون هكذا؟».
ما جرى ليس السبب الوحيد للخلاف. المشكلة ازدادت تأزماً بعد تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف حكومته الحالية إثر فرط حكومة سعد الحريري. استضافت دار الفتوى، يومها، اللقاء الإسلامي الموسّع. طرحت في اللقاء فكرة «الثوابت الإسلامية التي نبعت من عند بعض الساسة (تيار المستقبل) وتضمنت خمس نقاط خلافية هدفها حمل الرئيس نجيب ميقاتي على الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة». يؤكد المفتي: «لم أرضَ أن أَدخل أو أُدخل دار الفتوى في هذه المتاهات، فطلبت تعديل إحدى هذه الثوابت».
هذه الحادثة لم تكن كافية لبدء هجوم المستقبل على رمز الطائفة السنية، فانتظروا «طلب حزب الله لزيارتي». عند هذه اللحظة بدأت الضغوط، و«طُلب مني إلغاء الموعد فرفضت. في اليوم التالي، صدرت الصحف الخاضعة لتوجيهاتهم، وفيها أن المفتي انتقل إلى الضفة الأخرى».
هنا ترتفع نبرته قليلاً، ويقول: «هذا كذب، لست أنا من يكون في جهة وينتقل إلى أخرى كما يفعل السياسيون». أما ما قطع حبل الود مع المستقبل، فهو ما قام به رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة عندما قدم «مشروعاً لتعديل المرسوم الاشتراعي رقم 18 الصادر عام1955، الذي ينظم شؤون المسلمين السنّة». ففي المرسوم توجد «صلاحيات كثيرة لمفتي الجمهورية». وفي المشروع المقدم هناك «19 بنداً، وفي كل موضع فيه صلاحية للمفتي سلبه إياها المشروع. فماذا يبقى لمفتي الجمهورية؟ لا شيء سوى الثوب الذي يواري جسده. جرّدوه حتى من عمامته وجبّته، لذلك قالوا لا تصلّوا وراءه». تعديل هذه الصلاحيات تعني أنه «لا يبقى شيء سوى أن يستقبل المفتي الزوار، ويتكلم للإعلام، ويصدر الفتوى الدينية». في الحديث عن «الصلاحيات التي يريدون نزعها» يشير إلى «مادة في المرسوم 18 تقول إن مفتي الجمهورية هو الرئيس الديني للمسلمين بكل طوائفهم». وفق التعديل الذي قدمه السنيورة يصبح مفتي الجمهورية «الرئيس الديني للمسلمين السنّة». يسأل قباني: «لماذا التحجيم؟ إذا كان القانون يعطينا دوراً كبيراً وكل الطوائف ترضى بذلك، فلماذا نحدّ أنفسنا؟». يعطي مثالاً آخر: «هناك نص في المرسوم يقول إن مفتي الجمهورية هو المرجع الأعلى للأوقاف». إن عُدِّل المرسوم «فسيحذف هذا النص تماماً، ما يعني أنه لا علاقة للمفتي بالأوقاف، ولا يمكن أن أرضى بذلك». هنا تعلو نبرة صوته مجدداً: «كمحمد رشيد قباني أولاً، وكمفتي الجمهورية ثانياً، لن أسمح لأيٍّ كان مهما كان موقعه بالعبث بالمرسوم رقم 18 وسأقف في وجه من يريد ذلك. لا أقبل أن يأتي من بعدي مفتٍ منزوع الصلاحيات». ويؤكد أنه لا يزال ملتزماً «الدعوة لانتخاب مجلس شرعي جديد؛ إذ إن المجلس الحالي انتهت ولايته منذ 3 سنوات ومُدّدت ولايته وينبغي إجراء انتخابات حسب الأصول». ويضيف: «هذه الانتخابات ستجري في أقرب وقت ممكن بحسب ما تسمح ظروف البلد».
يؤكّد قباني أن «لا وساطة حالياً ــــ ولا حتى سعودية ــــ بيني وبين المستقبل. الأصدقاء يتمنّون علينا ألّا تكون هناك خلافات. من جهتي لا خلاف معهم إطلاقاً. هم من يقاطعون الصلاة ورائي، وهذا شأنهم». يضيف متهكماً: «ربما من الحداثة والتطوير في السياسة عدم الصلاة خلفي وعدم المبالاة بكرامات الناس». ويسأل: «كيف تحافظون على كرامتكم وأنتم تهاجمون كرامات الناس»، ليخلص قائلاً: «من باب النصح ولا أقوله عدواناً ولا كراهية: فليتق المسؤولون عن تيار المستقبل الله. جمهورهم طيب وهو من الاكثرية الصامتة. أما مسؤولوهم فيريدون الأنا. الأنا هي التي أخرجت إبليس من الجنة».
يتهم المفتي «المستقبل» بأنه «أساء إلينا كثيراً ونشر شائعات كاذبة وملفات مالية وهندسية. هناك أمور خاطئة حصلت، لكنها لا ترقى إلى مستوى الفضيحة والاختلاس». يؤكد أن هذا «كله كذب. السياسيون يكذب بعضهم على بعض، ويعتقدون أن مفتي الجمهورية من هذا الصنف، فيتكبرون ويتطاولون عليه. لقد تصرفوا بشكل معيب، وهذا دليل على عدم وجود شيء من الأخلاق السياسية».
عن الحركات السلفية الجهادية، يذكّر المفتي قباني بأن «الجهاد في الإسلام فريضة وشرف، ولكن يجب أن يكون الجهاد من طريق المرجع». أما عن العنف الذي يمارسه السلفيون الجهاديون فيرى أنهم «يتصرفون بطبائعهم وعاداتهم وعنفهم. فالإسلام والسلف الصالح غير مسؤولين عن ذلك. صفة السلفي أُلبست لأناس لا يستحقونها إلا إذا كانوا صالحين». ويضيف: «هؤلاء لا يأتون إلى دار الفتوى ولا يتكلمون مع المفتي ولم يلتقوا بي سابقاً. للأسف هذه ليست أخلاق الإسلام. الدين لم يعلمنا الكراهية».
كيف ينظر المفتي إلى اقتراح قانون الانتخاب باعتماد النسبية؟ يجيب: «أنا لا أقول إن النسبية تضرب الطائفة السنية. لا أنتقد الرأي الآخر ولا أنقضه، بل أنصح وأقترح. أولاً، النسبية مبدأ انتخابي عادل؛ لأنها تسمح بتمثيل الجميع. ولكن للنسبية ضوابط وشروط». ويضيف: «القانون الذي أقرّه مجلس الوزراء اعتمد تقسيمات إدارية نسفت النسبية؛ لأن التقسيمات جاءت بحسب الأهواء السياسية لواضعي هذا القانون». ويزيد أن «النسبية مبدأ مقبول ومطلوب. اتفاق الطائف لم ينص على النسبية باللفظ. إلا أنه نص على اعتماد قانون انتخابي يتمثل به جميع اللبنانيين تمثيلاً صحيحاً وسليماً».
كيف هي علاقة مفتي الجمهورية مع حزب الله؟ يجيب: «علاقتي مع الجميع جيدة. نلتقي ويسمع بعضنا بعضاً، وتكون النصيحة دائمة للجميع». يعود المفتي ليوجه سهامه إلى السياسيين، فيشدد على ضرورة «احترام الرأي الآخر. هم يكذبون لأنهم لا يلتقون بالآخر وكرهوا المفتي لأنه التقى مع الآخر».
وعن علاقة دار الإفتاء بجمعية المشاريع، يقول: «لا يزال الأحباش موجودين في المساجد التي يضعون أيديهم عليها، والأوقاف لا تكلف أحداً». يضيف: «بالنسبة إلينا، نحن جاهزون للتكليف، لكننا لا نريد خلافاً مع أحد». يستغرب المفتي قولهم إنهم مع دار الفتوى، يسأل: «مع أي دار فتوى؟ مع حيطان دار الفتوى؟ مع الحجر في الدار؟ أم مع النظام ومجلس الأوقاف ومدير الأوقاف ومفتي الجمهورية؟». يؤكد مجدداً: « لا نريد أن نخاصم أحداً. نحن نريد النظام، وهم وغيرهم إذا كانوا منتظمين فسيرون الشيء الطيب، وإذا كانوا غير منتظمين فلن نسبب مشاكل. هذا ليس ضعفاً. هل يريدون صراعاً جديداً في المساجد؟ أدعو الجميع إلى التعقل، ورحم الله امرأً عرف حدّه ووقف عنده».



هدوء ما قبل العاصفة؟

بعيداً عن العلاقة المتوترة مع التيار الأزرق، فإن مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني مع «إصلاح الأمة، وإصلاح الوضع السياسي في كل بلد، ولكن ليس من طريق العنف لنكون خير أمة أُخرجت للناس. نحن الآن لسنا خير أمة في الواقع والسلوك». وهو يحذّر من «انعكاسات خطيرة للوضعين السوري والعربي على لبنان، ومن أحداث خطيرة جداً، إلا إذا شاء الله والقادة السياسيون أن يصونوا لبنان». ويشير إلى أن «الأمور أهدأ حالياً، لكن لعله الهدوء الذي يسبق العاصفة. السياسة اللبنانية سياسة انتظار وليست سياسة بادئة. وهم ينتظرون ما سيحدث في المنطقة العربية ليقف بعضهم في وجه بعض، فيما يجب أن نصون وطننا مما يحدث في الخارج، سواء في سوريا أو في أي بلد عربي» ويزيد: «نحن ذاهبون إلى الهاوية إذا لم يتدارك القادة السياسيون أنفسهم وشعبهم، إذ إن السياسة التي يمارسونها حالياً رعناء وحمقاء».