التداخل بين الأزمة السورية وملفات لبنان المعقدة صار أمراً مفروغاً منه عند الجميع. الناس تأمل فقط أن تكون هناك حدود للانعكاسات السلبية. لكن لا أحد يقدر على الجزم بذلك من الآن، ولا سيما أن الانقسام السياسي والأهلي القائم في لبنان حول الازمة السورية يتمظهر شيئاًَ فشيئاً في حالات طائفية ومذهبية مقيتة. ولا أحد يقدر على تقديم صورة مختلفة. حتى عندما يخرج مسيحيو 14 آذار وبعض علمانيي اليسار الهرم (بعضهم أكثر هرماً من عمره الطبيعي) معلنين وقوفهم الى جانب المعارضة السورية، فذلك لا يعني أنهم يدخلون لوناً جديداً على الانقسام، بل يصار الى تصنيفهم على أنهم من «السنية السياسية» التي تشهد نمواً لافتاً منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية. ولذلك يضيع النقاش المنطقي المفترض، إذ في ملف سوريا يجري استخدام الأسلوب نفسه الذي كان أنصار «الإخوان المسلمين» يعتمدونه قبل عقود: أنت مؤمن بالله؟ إذا كان الجواب سلبياً، فلا مجال لمناقشة كافر وجب نبذه إن لم يكن ممكناً قتله. وإذا كان الجواب إيجابياً، فهذا كاف لمنع استكمال النقاش، لأن الإيمان بالله يوجب الإيمان بكل ما ينسب إليه أو إلى رسله، وليس هناك من داع للبحث والتفكير. اليوم، يلجأ التكفيريون الجدد، من أصوليين إسلاميين أو أصوليين ليبراليين، أو أصوليين يساريين، إلى الأسلوب نفسه. هل أنت مع النظام السوري؟ إذا كان الجواب نعم، فهذا يعني أنه محكوم عليك بالحرم إن لم يكن بالموت ذبحاً أو سحلاً لا فرق.
وفي أحسن الأحوال تصبح شبيحاً يحتاج الى رعاية وهداية. وإذا كان الجواب سلبياً، فلماذا تسأل عن كيفية محاربته، أو عن طبيعة معارضيه، أو عن سبب اللجوء الى أعداء الانسان في الإقليم والعالم لأجل إطاحته؟ عليك أن توافق ونقطة على السطر.
إلا ان المشكلة ليست في هذا الانحياز الكلي فقط، بل في نقض الحقائق العلمية إن لزم الأمر، مثل القول، ترداداً على لسان من يريدون تطويبه زعيماً، إن سوريا لم تكن يوماً الى جانب المقاومة، وإنها تريد المقاومين أدوات بيدها. أو إن سوريا لم تكن دولة يوماً، وإنها ظلت على الدوام مزرعة يحكمها البعث وآل الأسد. ولا بأس هنا من الاستشهاد بعبد الحليم خدام وصولاً إلى مناف طلاس. ونقض الحقائق يتوسع ليشمل اعتبار النظام مرتكباً أو مسؤولاً عن كل عملية قتل تحصل في سوريا، وأنه ليس صحيحاً أن في سوريا حرباً أهلية، أو حرباً طائفية، أو توتراً مذهبياً، أو أن هناك فروقات بين أهل الأرياف وأهل المدن. وبالتالي، يرى أصحاب هذا الرأي أن مجرد السؤال عمّا إذا كان هناك مَن مِن جمهور سوريا لا يزال يوالي النظام، هو تشكيك ينم عن غياب العقل. وبالتالي، تكون الحقيقة المقابلة أن بشار الاسد باق في سوريا بسبب دعم إيران وروسيا له. وهو المنطق نفسه الذي اخترعته أوساط في المعارضة السورية العميلة للغرب، والتي فضلت الاتكال على الخارج بدل السعي الى إقناع بقية الشعب السوري بوجهة نظرها، علماً بأن الحقيقة مقابلة، لأن هذا الصنف من المعارضين، وعلى ما قدمتهم «الغارديان» البريطانية قبل فترة، هم مجرد مأجورين عند صناديق ومؤسسات تديرها حكومات الغرب.
ونقض الحقائق العلمية يعني التصرف على طريقة غوبلز. فإذا قررت «الجزيرة» مثلاً، أو شقيقاتها من المحطات العربية والاجنبية أن الصورة المفترض تقديمها عن سوريا هي التي تقدمها هي، فهذا يعني أنها الحقيقة بعينها. وبالتالي، نكون أمام وقائع معروفة مسبقاً، مثل الشريط الاخباري الذي يقول لنا كل مساء إن «مئة وكذا وكذا قتلوا بنيران النظام السوري». وبالتالي، فلا يعود هناك من مجال لمناقشة أحد في حقيقة هذا الرقم، أو في هوية هؤلاء القتلى أو في ظروف مقتلهم. وإذا ما حاول البعض المحاججة استناداً الى حقائق موجودة مثلاً عند المراقبيين الدوليين، يصار الى إبلاغه: ليس مهماً ما تقول، هذا أمر هامشي، المهم هو قلب أو صدر
المشهد!
في الجانب الآخر من لعبة التكفير التي يعتمدها خصوم النظام على أنواعهم ومشاربهم، هناك اعتبار أن أي نقاش في واقع المعارضة السورية هو نوع من التشكيك في أخلاقية الثورة وهويتها وأهدافها. وهذا يتعارض مع السياق التاريخي للثورات التي لا تسأل عن هويتها قبل الانتصار. ولا يمكن مساءلة أو محاسبة قادتها قبل تسلمهم الدولة. كذلك لا يمكن انتقاد سلوكيات الثوار لأنها جزء من شروط الثورة نفسها. وبالتالي، يصبح محتماً، برأي هؤلاء التافهين، أن يقبل المرء منا بكل ما يحصل على أنه حقيقة ثابتة، وأن ما يمكن وصفه بالخسائر هو مجرد «ضريبة الثورة الكبرى».
على هذا المنوال، ينساق اللبنانيون في انقسامهم الآخذ في التوسع حول الأزمة السورية. فإذا اعتبر خصوم النظام تحول لبنان قاعدة لمعارضيه من المسلحين أمراً عادياً، فهؤلاء يمنحون داعمي الأسد حق اعتبار الأنشطة الداعمة للنظام من داخل لبنان أمراً مشروعاً... ترى، هل فكّر هؤلاء في سر وجود حملة تضامنية مع ميشال سماحة، برغم كل العناصر التي تشير الى تورطه في لعبة خطيرة؟ ترى هل فكّر هؤلاء في سر «تساهل» قسم كبير من الشعب اللبناني مع خاطفي المواطنين السوريين وهوايتهم المتنقلة رغم بشاعتها وقسوتها؟