باتت معركة حلب، بعد شهرين من اندلاعها، تختصر كل الأزمة السورية. منذ هاجمتها المعارضة المسلحة، بالتزامن مع هجومها لأول مرة على دمشق في 20 تموز، تشهد المدينة الثانية اشتباكات عسكرية يومية من غير أن يتسنى لأي من طرفي النزاع، الجيش السوري والمعارضة المسلحة، حسمها لمصلحته، وإحكام سيطرته عليها. خرجت أريافها ــ أو تكاد ــ من سلطة النظام، إلا أن جزءاً كبيراً من ضواحيها في عهدته. أما المدينة من الداخل فلا تزال، إلى حدّ، في منأى عمّا يدور من حولها.
لم يتكلم نظام الرئيس بشّار الأسد يوماً عن حسم في حلب، على غرار ما أعلنه في شباط الماضي قبيل معركتي حمص والزبداني وريفيهما، ولم تعترف المعارضة مرة بأنها نجحت في الاستيلاء عليها، رغم إمداد السلاح والمسلحين المفتوح مع تركيا.
بل شكّك تطور العمليات العسكرية في حلب واستمرارها في التوقعات المتسرّعة والغامضة عن قرب سقوط الأسد، وأعطى النظام مرة أخرى أدلّة على تماسك مؤسستيه العسكرية والأمنية، وعلى أن الأزمة متواصلة إلى أكثر ممّا رجّح الغرب، وخصوصاً الأميركيين، منذ أعلنوا لأول مرة في تموز 2011 أن الأسد يوشك على السقوط، ثم قالوا إن بقاءه في الحكم مسألة وقت، ثم مسألة أسابيع، ثم مسألة أشهر.
لا تختصر معركة حلب الأزمة السورية بشقيها العسكري والسياسي فحسب، بل راحت تعكس وقائع إضافية:
أولاها، أنها أصبحت تمثّل التوازن الدولي الجديد في سوريا الذي وضع سقفاً لكل من الأسد ومعارضيه، من شأنه تمديد عمر الحرب الدائرة هناك إلى أن يتوصّل هذا التوازن إلى توافق على تسوية سياسية يشترك فيها الأفرقاء العرب والغربيون العاملون على تسعير تلك الحرب. ورغم فقدانه السيطرة على أجزاء واسعة من بلاده، نجح الأسد في الصمود على الأرض ومنح الدعم الروسي والصيني والإيراني له مقوّمات رئيسية تجعل أي تسوية من دونه متعذّرة، إن لم تكن مستحيلة. بفضل حماية موسكو عطّل تدخّلاً عسكرياً غربياً ضده، إلا أن تلك الحماية كانت تحتاج بالفعل إلى مثل صمود نظامه وجيشه.
بات الاعتقاد السائد أن إخراج الأسد من الحكم يقتضي أن يقترن بمخرج وحيد، في ظلّ تعثّر الرهان على انقلاب الجيش عليه، هو الوصول إليه واغتياله لإنهاء دوره تماماً في معادلة الصراع. بعد مقتل أربعة من ضبّاطه الكبار في 18 تموز وبقاء المؤسستين العسكرية والأمنية متماسكتين، أصبح الوصول إلى الرئيس أكثر استعصاءً.
ثانيتها، أن معركة حلب أضحت معركة تركية ــ سورية أكثر منها معركة الأسد مع معارضيه المسلحين. منذ تموز الماضي تحجب أحداث المدينة معظم ما عداها من اضطرابات أخرى تجري يومياً في أرياف دمشق ودير الزور وحمص ودرعا وإدلب. وشأن سواها من مدن سورية كحمص في أحسن الأحوال، شهدت ضواحي حلب ضراوة غير مسبوقة، إلا أن أياً من الطرفين لم يتمكن من الحسم العسكري.
ورغم قربها من البوابة التركية، أخفقت أنقرة في تحقيق انتصار سياسي وعسكري في حلب، رغم أن كلتا يديها في النار عبر تزويدها المعارضة المسلحة أسلحة وعتاداً، وتسهيل مرور المقاتلين من جنسيات عربية وغربية، وتحوّلها محطة لانتقال الأموال العربية الداعمة لمعارضي الأسد، أضف مخيّمات اللاجئين وقد تحوّل بعضها مخيّمات تدريب، ووجود ضباط وخبراء أتراك في صفوف الجيش السوري الحرّ يديرون عملياته العسكرية ويوفرون له أوسع شبكات اتصال.
بعدما أخفقت في إدلب السنة الماضية، لم تتمكن أنقرة من فرض منطقة عازلة في حلب تؤمن الحماية الجوية لها وتلجأ إليها المعارضة المسلحة، وتسهّل للمجلس الوطني السوري الذي يحظى بأبوة تركيا له إنشاء كيان محميّ ينزع الاعتراف الدولي عن شرعية الأسد.
أمست معركة حلب مأزقاً تركياً لسببين على الأقل: الأول هو عجز أنقرة عن الاستمرار فيها أو التراجع عنها، والثاني أنها معركة لا تتوافر فيها ظروف انتصار المعارضة المسلحة. لكن من غير المؤكد تماماً، في المقابل، أن النظام سيسترجعها ويبسط سيطرته عليها مجدّداً.
ثالثتها، بات الرئيس السوري يتكيّف مع حرب طويلة الأمد بعدما استوعب الصدمة الأولى، وهي أن بلاده تشهد لأول مرة في تاريخها منذ الاستقلال حرب شوارع، وحرباً تقترب من أن تكون أهلية. اختبرت سوريا على مرّ عقود طويلة نزاعات اختلط السياسي فيها بالعسكري، كانت تنتهي باستيلاء الجيش على السلطة بعد صدامات وتنافس مع السلطة السياسية أو مع الأحزاب، أو عندما يُغلّب حزب على آخر، أو بين الضبّاط الكبار أنفسهم. لم تطبع أي منها الحرب الأهلية، بما في ذلك التجربة الوحيدة التي شهدتها سوريا عام 1954 وأرغمت رئيسها أديب الشيشكلي على التنحّي في شباط وهربه إلى لبنان، بعدما أقحم الجيش في صدام مسلح مع جبل الدروز الذي قصفه بالطائرات، فانفجرت في وجهه مدن كبرى أخرى كحلب وحمص. مع ذلك لم تندلع حرب أهلية.
منذ سنة ونصف سنة، يواجه الجيش اقتتالاً تشترك في بعضه طوائف، وفي بعضه الآخر عسكريون منشقون على الجيش النظامي، وفي بعضه الثالث يقاتل الجيش تنظيمات مذهبية متشدّدة في معرض الدفاع عن طوائف أخرى في مدن وأحياء، في حرب استنزاف طويلة يتعذّر انتصاره الكامل فيها.
في الأشهر الثلاثة الأولى من اندلاع الأحداث السنة الماضية، كان من السهولة بمكان ملاحظة زوّار سوريا الذهول على وجوه الضباط الكبار المحيطين بالأسد، وهم يحارون كيف يجبهون اضطرابات اندلعت فجأة في أكثر من مدينة سورية، بدءاً من درعا، من غير أن يتوقعها الجيش، ولا كذلك أجهزة استخباراته المتعددة الدور والوظيفة. ومن غير أن يسع هذه فهم مغزى ما يحصل، ولا طريقة التصرّف معها. فأفرط الجيش في استخدام عنف قاد إلى انهيار البلاد تدريجاً. منذ آخر انقلاب عام 1970 لم يُستخدم الجيش السوري في نزاع داخلي، بل أفسح في المجال أمام أجهزة الاستخبارات العسكرية والمدنية مراقبة البلاد والعباد، والسيطرة على الحياة العامة فيها. وما خلا أحداث حماة في 2 شباط 1982 ــ التي بدأت أمنية عام 1976 وانتهت عسكرية بعد ست سنوات ــ لم يستخدم الرئيس حافظ الأسد الجيش السوري، خارج الاشتباك مع إسرائيل، سوى في لبنان.
أسباب كهذه كافية للاعتقاد بأن الأسد الابن يُعدّ نظامه لتحمّل حرب طويلة الأمد، ليس معارضوه المسلحون هم أعداءه الوحيدين فيها. تعني معركة حلب، بالنسبة إلى النظام، آخر معارك تركيا ضده في الداخل، بعدما أخفق تدخّلها في حماة وحمص البعيدتين عن حدودها، وفي إدلب المتاخمة لها، في فرض منطقة عازلة.
بالتأكيد لم يُنظر إلى أي من تلك المدن، ولا أعطيت معاركها الضارية، مغزى سياسياً مشابهاً لحلب.