لم يتوقع مراسل إحدى القنوات التلفزيونية يوماً أنه سيقف على بُعد خطواتٍ من الرجل الذي أُدين بقتل عمّته واغتصابها ميتة. ينتحي المراسل الشاب جانباً، يرقب حركات «غريمه». يُركّز نظراته نحوه، لكن عينيه تسرحان بعيداً. يبدو لوهلة، كمن يستعيد جريمة يشهد وقائعها للتو. ينسى للحظات أنه هنا لتغطية حدث زيارة وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور لسجن رومية المركزي. يعود الشاب العشريني سنتين في الزمن، يسترجع تفاصيل رواها له ابن عمته القتيلة. يُخبر كيف خنقها بمنشفة، وقبل ذلك كيف أخبر نجلها بأنه سيترك له هدية، لم تكن سوى والدته الأربعينية. خلال تحديقه، يبتسم المراسل باستهزاء قائلاً: «لقد خسر بعضاً من وزنه». تسأله هل يعرفك؟ فيجيب من دون أن تفهم جوابه. المهم أنه يعرفه. يُكمل الشاب «صفنته»، وتحاول عبثاً فهم المشاعر التي تتصارع في داخله. في المقلب الآخر في تلك الأثناء، وبين السجناء المحتفلين، كان يجلس الرجل المتهم بالقتل بوداعة.
لا يبدو أن هناك ما يُعكّر مزاجه، يستمع إلى كلمات المتعاقبين من الخطباء. يحكّ رأسه بيديه بين الحين والآخر. ويلتفت يمنة ويسرة مجيلاً عينيه بالحاضرين من دون تركيز. لا يوجد ما يوحي بأنه قد يكون قاتلاً. ليس هناك سوى وجه متعب وتجاعيد لرجلٍ خمسيني.
في تلك الأثناء، يقترب منك سجين. يتبعه آخر، ثم يأتي ثالث يُمسك بيدك محاولاً لفت الانتباه. يجهد كل واحدٍ من هؤلاء للحصول على تركيزك، فلكلٍّ منهم قصة يريد أن يرويها، رغم إدراكه أن فهمها خلال دقائق قليلة مستحيل.
لا تزال مراسم حفل تخرّج 97 سجيناً في باحة مبنى المحكومين مستمرة. طلّاب سجناء في محو الأمية والكمبيوتر واللغات والرسم يجلسون على المنصة، يرتدون زي التخرّج باللون الأزرق، يصمت بعضهم سارحاً ويتبادل أحدهم أطراف الحديث مع الجالس بقربه، فيما يُنصت البعض الآخر إلى كلمات الخطباء المتعاقبين. وهم على التوالي، رئيس جمعية عدل ورحمة الأب هادي العيّا وآمر سجن رومية المركزي العقيد عامر زيلع ووزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور وآخرون. في موازاة ذلك، ومن الناحية الخلفية للمنصة، يجلس سجناء آخرون محاولين تجنّب عدسات الكاميرا. يحكي هؤلاء عن همومهم. على سبيل المثال، يستنكر أحدهم إقامة هذه المهرجانات التي بمعظمها «حكي فاضي». يتدخّل سجين آخر محاولاً بالأرقام إثبات «الإسراف والتبذير»، بحسب قوله. فيذكر أن المنصّة المصنوعة من الألومينيوم تساوي الكثير من المال، ولو كانت مستأجرة فإن الكلفة ستساوي عدة مئات من الدولارات. يُكمل التفصيل، «بوفيه الطعام على الأقلّ كلّف خمسة آلاف دولار». تسأله وما شأنك، ربّما كانت هبة أو تبرّع؟ فيخلص إلى غايتها قائلاً: «قسطل المياه وريغار المجرور معطّل منذ مدة وكلفة الاثنين لا تتخطى مئتي دولار». ثم يضيف: «لماذا لا يتبرّع أحد لإصلاحه، بلا 2 كيلو بقلاوة». يُخبرك آخر أن معظم السجناء رفضوا النزول لأنهم ملّوا هذا الاستغلال الإعلامي لهم من دون طائل. تسأله: كيف ذلك؟ فيقول: «في المرة الماضية قلنا للوزير أبو فاعور إننا لا نريد منه سوى دواء لقتل الصراصير والجرذان التي تملأ السجن». يُخبرون أن الأخير آنذاك وعدهم بتلبية مطلبهم، لكن «مرّت أشهر ولم يُحضر دواءً ولا من يحزنون». ويشكو هؤلاء من أن «أعداد الجرذان باتت تفوق عدد السجناء داخل أروقة السجن». تُحاول توجيه الحديث، بعد استطراد البعض لتفصيل مشاكلهم الشخصية، ولا سيما أنهم لا يتكلّمون كل واحدٍ منهم وحده، بل اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة. لا تُفلح في ذلك، تقرر أن تنسحب مصافحاً لإكمال الجولة فيوصيك أحد السجناء السوريين: «اطلب من زيلع أن يكفّ عن إحضار مهرّبي أسلحة إلى المعارضة السورية ومعارضين للنظام. لا نريدهم بيننا». تسأل عن السجناء المتخرّجين، هل بينهم سجناء من فتح الإسلام؟ فيردّ أحدهم بنفور: «بينهم عملاء... انظر إلى محمود رافع وجودت الحكيم وآخرين». يتدخّل سجينٌ آخر، فيذكر أنه كان يُفترض أن يكون من بين المتخرّجين، لكنه رفض الجلوس بينهم بعدما علم أن بين المتخرّجين 15 مداناً بالعمالة. يدلّك أحدهم على محمود رافع، لكنه يرفض مرافقتك باتجاهه. فهو عميل، و«العملاء منبوذون هنا». يقول السجين بثقة مع العلم أنه سوريٌّ وليس لبنانياً. خطوات تفصلك عن العميل محمود رافع. أشهر العملاء هنا، وكذلك في لبنان. يُحيط به سجينان آخران، تعلم أنهما من بين العملاء أيضاً. لم يتغيّر حال رافع كثيراً عمّا كان عليه خلال خضوعه للمحاكمة في المحكمة العسكرية. خسر بعض الوزن لا غير.
تحوّلت باحة مبنى المحكومين في السجن المركزي إلى سجن للصحافيين لساعات قليلة. وتحوّل معها هؤلاء إلى نزلاء في ضيافة السجناء. خاض الوافدون مع القاطنين في مختلف الملفات، لكن لم يُكلّف المضيفون أنفسهم عناء سؤال أحد عن العالم الخارجي. بدوا كالعارفين بخبايا كل شيء. كيف لا، وهم لا يتركون برنامجاً سياسياً أو اجتماعياً يعتب عليهم. يتابعون أي شيء وكل شيء عبر وسائل الإعلام. تصادق الطرفان ثم تبادلا أرقام الهواتف.
إلى يسار الباحة، كان يجلس أحد السجناء وحيداً. يستفزّك بوحدته غير عابئ بالقادمين على عكس زملائه. تتعمّد المرور بجانبه لتتوقّف متأمّلاً نوافذ السجن التي تتدلّى منها أغطية وملابس تخصّ السجناء. هنا يبدأ السجين بالكلام من دون أن يلتفت إليك. فيقول: «انظر إلى الوزير أبو فاعور. صار وزيراً وأنا بتّ سجيناً». تسأله: هل تعرفه؟ فيردّ مجيباً: «كان معي في نفس الصف في مدرسة فرانكو أراب». لماذا لا تُسلّم عليه؟ تسأل فيجيبك: «أنا سجين ريحتو طالعة. كيف بدو يتعرّف عليي وزير... ما حلوي بحقّو». لحظات ويُبدّل رأيه سائلاً: «هل يمكنك أن تُخبره أني أريد مصافحته؟». تصحبه إلى الوزير، فيتصافح الاثنان. ينطق السجين اسمه: «أنا عبد المنعم عوض، كنت أنا وأخي معك في نفس المدرسة في الصف الثاني متوسط». يضحك الوزير قائلاً: «لا أتذكرك»، ويسأله: «ما اسم المدرسة؟»، فيعيد عوض على مسمعه اسمها، لكن الوزير يهزّ برأسه: «لم أكن قطّ في تلك المدرسة». يهمّ الوزير بالمغادرة فيستوقفه سجينٌ آخر، مشيراً بيده إلى سقف تقطر منه المياه ويقول: «ريغار المجرور قتلنا، لماذا لا تُصلحونه لنا؟». هنا يجيبه الوزير ضاحكاً: «في منزلي أيضاً نش مياه».
القصص والأخبار لا تنتهي هنا. يجلس أحد السجناء مادّاً قدمه المصابة إلى كرسي. يُخبرك أنه أحد أفراد الجناح العسكري لآل المقداد. تسأله عن الباقين، فيخبرك بأن ماهر وحسن المقداد يقيمان في غرفة وحدهما في نفس المبنى. وماذا عن بقية الموقوفين المقداديين؟ فيرد ضاحكاً: «كلّهم هنا وبخير».



احتفال باهت في رومية


لم يكن استقبال سجناء رومية المركزي لوزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور (الصورة) بالحفاوة المتوقّعة. نزل قليلون منهم إلى باحة السجن، فيما آثر آخرون البقاء في غرفهم. وإضافة إلى حضور السجناء المتخرّجين الذين يقام الاحتفال على شرفهم، انتشر سجناء آخرون يمكن عدّهم على الأصابع في الباحة الداخلية. في مقدمة المحتفلين جلس الضيوف، وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور وقائد سرية السجون العقيد عامر زيلع ورئيس جمعية عدل ورحمة الأب هادي العيّا، إضافة إلى عدد من القضاة والإعلاميين وممثلين عن جمعيات تُعنى بأحوال السجن. وبرزت بين الكلمات كلمة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي التي ألقاها آمر سرية السجون العقيد عامر زيلع. فقد تطرّقت إلى أنه بعد خفض السنة السجنية إلى تسعة أشهر، أُفرج عن عشرات السجناء. وكان من بينهم نزلاء قضوا أكثر من عشر سنوات خلف قضبان سجن رومية. ورغم ذلك، وبعد عدّة أيام من إطلاق سراح هؤلاء، ارتكب بعضهم جرائم جديدة استدعت إعادتهم إلى السجن مجدداً.