بين أحلامه التي لم تكبر بعد، انغرزت الرصاصة.. المقصودة. رصاصة صغيرة بما يكفي، لكنها كافية للقتل. هناك، على الطريق الفاصلة بين راس النبع وطريق صيدا القديمة، حيث كانت لقمة العيش، مات أحمد وحيداً في ليلٍ موحش بلا قمر. سيمر موته بلا صخب، فلا أحد سيعرف بتلك الحياة التي بترت ولا أحد سيهدد بالانتقام لدمه، ولا أحد سيكترث لهذا الغياب. فمع النبضة الأخيرة، استحال المقتول عابراً. لكن، هل هناك من سأل عما تركه أحمد خلفه؟ عن أمه التي ستفجع في ما بقي من عمرها؟ عن أطفاله الذين ينتظرون غلّة سائق الأجرة آخر المساء؟ ترى ما الذي استعاده أحمد في آخر لحظاته، وهو سابح في دمه؟ هل فكّر أحد بذلك؟ لا. مع ذلك، لا بدّ من أن نعرف عن أحمد هذا التفصيل قبل أن ينغل فينا النسيان: مات الأب، لأن تيار المستقبل قرر الأخذ بثأر وسام الحسن من أبرياء مجهولين. كما حال الذين راحوا، في يوم رفيق الحريري، وما قبله وما بعده، والذين نسينا أسماءهم. راح الشاب في غمرة الحرب الدائرة، على أثر اغتيال العميد وسام الحسن. لم يذهب برصاصة طائشة، كما اصطلح على تسمية ذلك الموت. كانت مقصودة. من قتله هناك كان يعرف بأنه «فلان ابن فلان». قتله بعدما تثبت من هويته. هي قصة الموت على هويةٍ عادت من حربها الأهلية.
أمس، على الطريق نفسها، أطلق المفجوعون بموت قائدهم النار على من تخونه بطاقة الهوية. في ذلك الليل الذي بلا قمر، كان «أبناء الضحية» يقيمون حاجزاً على الهوية على أبواب الناعمة. تماماً، قبل حاجز الجيش اللبناني بعشرات الأمتار. كانوا يريدون تنقية منطقتهم من مرور «الغرباء». في تلك اللحظة العاثرة بحظها، مرّ علي رضا المصري. صادفت لحظة مروره لحظة الغضب على المقتول في كترمايا. أوقفوه للسؤال. كان السؤال محدداً: «إنت سني أو شيعي؟». لم يجب. بقي صامتاً بلا صوت. فماذا عساه يقول «مخلّط، مرتي سنية؟». طلبوا بطاقة الهوية، فلم يفارقه صمته. كان من بينهم شاب يعرفه. شعر بشيء من اطمئانٍ لم يكن في محله، فقد وشى الجار بمذهب الجار. عندها، صرخ أصحاب «السراويل السوداء» وانهالوا عليه بالضرب. بقي ممسكاً بمقود سيارته، يتلقى الضربة تلو الأخرى. لم يكن في اليد حيلة. لم يكن يشعر بشيء إلا بالصوت الذي يطلب منه النزول إلى الأرض. لكنه، لم ينزل. أحس بالموت يقترب، مع ذلك بقي ممسكاً بالمقود، إلى أن عاجله «القبضاي» بضربة جنزير على جبينه هزّت رأسه. لكنها، كانت «مناسبة» في حينها، فقد أزاحت تلك الضربة الرصاصة التي كانت ستمزق رأسه.
عندما هوى على المقود، تركوه فقط. هرب بدمه، فأوصله وعيه المتبقي إلى مسافة تبعد حوالى 20 متراً عن مستشفى الحاج في الجيّه. هناك، ضاع علي. فقد الوعي ليستيقظ فوق سرير أبيض. بقي ثلاث ساعاتٍ في «الطوارئ» غارقاً في دمه، فقالوا له هناك: «لا يمكننا استقبالك، فقلت لهم خليني إحكي مع أهل زوجتي من كترمايا». وصل الأهل والمسلحون معاً «كانوا يريدونني بأي ثمن، ولكن أقرباء زوجتي سوّوا الأمر وخرجنا إلى مستشفى سبلين». مع ذلك، لم ينته المسلسل. كان «الشيعي» مطلوباً بقوة هناك. لحق مسلحون آخرون به إلى المستشفى. كان يسمعهم يقولون «بدنا الشيعي». شعر بالموت مجدداً الذي دفعه للهرب من الباب الخلفي للمستشفى. كانت الساعة تشير إلى العاشرة، عندما توقفت إحدى السيارات ونقلته إلى وادي الزينة. ومن هناك «صرنا نستقل سيارات من مكان إلى آخر إلى أن وصلنا إلى مستشفى الزهراء الساعة الواحدة بعد منتصف الليل». هناك، استراح «الشيعي» بين أهله. وهناك، وجد «شيعة آخرين انضربوا على الناعمة»، منهم الشاب الذي قطّعت أصابعه بالسيف والشاب الذي مزق ظهره بثمانين طعنة.. وغيرهم من الشباب الذين قادتهم الصدفة إلى الموت على حاجز الهوية.
لم يكن علي وحيداً ولا موسى. كانوا كثراً. بعضهم بترت حياته، وآخرون يخيطون جراحهم في مستشفيات بيروت التي تأهبت منذ أول من أمس لاستقبالهم... حسب الهوية أيضاً. هكذا، كانت المقاصد لأهلها والزهراء والرسول الأعظم والساحل لأهلٍ آخرين. والمناطق أيضاً فرزت حسب هويتها. والجناح مثال على هذا الفرز، حيث الأغلبية «من الطائفة الشيعية الكريمة»، يقول أحدهم. وهناك، وسط «الطائفة الكريمة»، حمل «الغرباء» حيواتهم ورحلوا. إلى غير رجعة؟ إلى رجعة؟ لا أحد يعرف.