يجلس وفد حماس في غرفة («الأخبار»، 7 كانون الأول 2012، نقلاً عن يديعوت أحرونوت). في الغرفة المجاورة، وفد حكومة بنيامين نتنياهو؛ يتنقّل الوسيط المصري بين الغرفتين، ناقلاً الملفات والاتفاقات التفصيلية لفك الحصار عن القطاع. هكذا، يستطيع الطرفان التأكيد أنهما لا يعترفان ببعضهما؛ ستعتبر حماس أن «انتصار حجارة السجّيل» أجبر الإسرائيليين على منحها تسهيلات في عمليات الاستيراد والتصدير وتصاريح العمل وتوسيع رقعة شريط الصيد والتخلي عن الشريط الفاصل بين إسرائيل والقطاع، من بين تسهيلات عديدة أخرى. أما حكومة نتنياهو، فتتفاوض وفق رؤية سياسية جديدة؛ فهي «لم تعد تسعى إلى إسقاط حماس، بل صارت معنية بمنح سلطة الحركة قوة كي تحافظ على الهدوء، وكي تدفعها إلى التحالف السني المعادي لإيران، المؤلف من مصر وقطر وتركيا».
وهذه هي كلمة السر في المشهد كله؛ ليس مهماً ما قاله خالد مشعل حول فلسطين والبحر والنهر، الخ، بل ما حدّده بدقة ووضوح، في سياق كلام ملتبس عن استقلالية حماس، أكّد «لم نكن تبعاً لسوريا وإيران في الماضي، ولسنا اليوم تبعاً لمصر وقطر وتركيا. ولكن هم معنا ونحن معهم». انتهى. هذا هو المطلوب؛ حماس مستقلة دائماً، كانت كذلك حين كانت في معسكر المقاومة، وما زالت كذلك، حين انتقلت إلى المعسكر المضاد!
مع هذا الموقف الاستراتيجي ــــ مشفوعاً بالتعهد بوقف «الأعمال العدائية» ضد إسرائيل ــــ بإمكان مشعل وإسماعيل هنية أن يشرّقا ويغرّبا، أمام الجماهير، كما يشاءان، في تأكيد «ثوابت» التحرير الشامل والعودة الكاملة، والشروع في رسم خطة إزالة إسرائيل من الوجود بالرعاية الشخصية لشيخ النعاج العربية، حمد بن جاسم، وأسد الحلف الأطلسي، رجب أردوغان، وبطل احترام المعاهدات وراعي الضمانات الأمنية للإسرائيليين، محمد مرسي.
لا يحتاج المرء إلى الكثير من الذكاء، لكي يكتشف السياق التفاوضي لزيارة مشعل لغزة؛ تكفي ملاحظة أن الزيارة تمت برضى إسرائيل التي رفضت، بالمقابل، منح الأمان لزعيم «الجهاد الإسلامي»، رمضان عبد الله شلّح، الذي لا يزال حليفاً نصف علني لإيران. الأخيرة لم تحظ بتحقيق رغبتها في إرسال مندوب عنها للمشاركة في احتفالات حماس بالعيد الخامس والعشرين لتأسيسها. ربما يشعر شلّح الآن بالمرارة؛ فقد استُخدم لإضفاء شرعية مضاعفة على صفقة التهدئة في غزة، ثم جرى استبعاده من نيل أي من ثمارها؛ حتى الوقفة مع مشعل وهنية، أمام الجماهير، حرمه الإسرائيليون منها، ولا أظن أن الأخيرَين انزعجا لذلك. هل يتعلّم الدرس، سواء لجهة إدراك استحالة تخطّي الشرط الإسرائيلي بقطع الصلات مع المحور الإيراني، أم لجهة استذكار التقليد الراسخ من التنكّر للحلفاء، المعروف عن الإخوان المسلمين، المشغوفين بالانفراد بالسلطة؟
للسذّج نترك التصريحات الدرامية المبللة بالدموع عن رغبة مشعل في الاستشهاد على أرض غزة؛ فمشعل يسير نحو أوسلو 2، وكان الاشتباك الغامض بين إسرائيل وفصائل المقاومة، الشهر الماضي، مقدمة دخانية لانطلاق المسيرة المباركة نحو صيغة السلام الملائمة لزمن الربيع العربي؛ توطيد غزة الإخوانية ككيان ذي كينونة ومركز للعملية السياسية الفلسطينية وللتفاهمات والبناء والازدهار، بينما تضمّ إسرائيل 44 في المئة من الضفة الغربية التي سيتحول الباقي منها إلى موضوع مفاوضات «بين غرفتين»؛ ولكن بلا اعتراف متبادل، ولا معاهدة، و«لا تنازل عن شبر من أرض فلسطين»!
ولاكتمال المشهد السوريالي، نلاحظ أنه، في مقابل شهر العسل الليكودي ــــ الحمساوي، تواصل حكومة نتنياهو، التنمّر على السلطة الفلسطينية في رام الله، وتجميد أموال الضرائب الفلسطينية التي يجبيها الإسرائيليون، وتشن حملة على الرئيس محمود عباس بسبب إقدامه على الذهاب إلى الأمم المتحدة ونيله اعترافاً بالدولة الفلسطينية على أراضي الـ 67. ويبدو أن هذه الخطوة الرمزية الصغيرة، تُغضب إسرائيل أكثر مما تغضبها صواريخ حماس وشعارات التحرير الحمساوية! لماذا؟ ألأنها أطلقت ــــ كما لاحظ الإسرائيليون ــــ «طاقة وطنية مستجدة» لدى مواطني الضفة؟ وهل ستعزز هذه «الطاقة» سلطة انتهت فعاليتها، وربما دورها، في ظل الاصطفافات الإقليمية التي أنتجها «الربيع العربي»؟ بالنسبة إلى إسرائيل، هناك هدفان تسعى إلى تحقيقهما، الأول تأمين تحالف إقليمي ضد إيران، والثاني ضمان عدم اضطرارها للتفاوض حول مغتصباتها في الضفة الغربية. ويتحقق هذان الهدفان من خلال تعزيز وضع حماس في «المعسكر السنّي»، وتحويل غزة إلى عنوان للدولة الفلسطينية.
على هذه الخلفية الأخيرة بالذات، قام الملك الأردني بخطوة اعتراضية؛ «زيارة دولة» لرام الله: للأردن مصلحة استراتيجية في مشروع دولة فلسطينية مستقلة مركزها الضفة، وعاصمتها القدس. وفي المواقف: لا كونفدرالية ولا فدرالية، ولا حكومة إخوانية ـــ حمساوية في عمان، تفضي إلى وطن بديل إسلامي.