حين بدأ الكرسي الرسولي في تشرين الأول 2009 الإجراءات لتعيين غابرييللي كاتشا سفيراً للفاتيكان في لبنان (صدر قرار تعيينه في 16 تشرين الأول)، فهم البطريرك الماروني نصر الله صفير أنّ عليه، بعد خوضه معارك كثيرة عن غيره، الاستعداد لخوض معركته الخاصة. فالبطريرك الذي يسمع عبر الآذان التي يأمن لها في الفاتيكان بعضاً ممّا يدور في أرجاء الكرسي الرسولي، فهمَ بسرعة أنّ المهمّة الأساسية لأقرب مساعدي البابا هي المجيء ببطريرك جديد للموارنة. وبات واضحاً لدى صفير أن الأسباب نفسها التي حثّت الفاتيكان على تغيير البطريرك خريش عام 1986، تحثّ الفاتيكان اليوم على تغيير صفير عام 2011.
وأوّل تلك الأسباب، إيقاف الفساد المنتشر على مستوى القيادة الكنسيّة بعد أن خرجت رائحته إلى العلن، والبدء بمأسسة البطريركية المارونية التي ما زالت تسير في القرن الواحد والعشرين كما كانت تحبو بعد سنوات قليلة من ولادتها، وتنفيذ ما ورد في الإرشاد الرسولي على هذا الصعيد (لا أحد من الموارنة يعلم اليوم بما يدخل إلى صندوق البطريركية وما يخرج منه، ولا أحد يعلم أين تصرف أموال أبناء الطائفة وحسب أيّة خطة؟ وكيف يُتصرّف في أوقاف الكنيسة؟ ولماذا مثلاً يقام مجمع سكني في المتن الشمالي لتوفير مسكن للموارنة النازحين من الجنوب والشمال بدل تأسيس مشروع زراعي في القبيات أو رميش يبقي موارنة هاتين البلدتين وجوارهما في أراضيهم).
السبب الثاني هو تحقيق مصالحة بين القيادة الكنسية والكنيسة أو المسيحيين بمختلف ألوانهم الحزبية والعقائدية والفكرية (في سرده مذكرات البطريرك صفير، يكتب الزميل أنطوان سعد أن «الفاتيكان كان ينظر بارتياح إلى التوجهات الأساسية للكرسي الأنطاكي بقيادة البطريرك خريش، لكنه كان في المقابل غير راضٍ عن أدائه لسببين: الأول عدم قدرته على أداء دور جامع بين القيادات المسيحية، أو أقلّه عدم تمكنه من إقامة علاقات جيدة مع معظمهم، وإن بالحد الأدنى. والثاني عدم تمتّعه بروح المبادرة، وخصوصاً في الفترة التي شهدت تلاحق الكوارث على المسيحيين»).
وثالث الأسباب هو تمكين البطريركية المارونية من أداء دور على صعيد حماية الوجود المسيحي، لا في لبنان فقط، بل في سوريا والأردن والعراق وفلسطين ومصر أيضاً، في ظل اقتناع فاتيكاني بأن الكرسي البطريركي الماروني، باعتباره ابن المنطقة، أقدر على أداء هذا الدور من كراسٍ أخرى أكثر نفوذاً على المستوى الدولي.

صفير يقاوم

وضوح الرؤية الفاتيكانية شجّع الرجل، الذي يعدّ نفسه حامي المقاومة حتى الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وداعم «السياديّين» حتى الخروج السوري من لبنان، على المواجهة: البطريرك الذي رفض منذ انتخب بطريركاً في 19 نيسان 1986 مأسسة البطريركية وتنظيم أمورها الإدارية والمالية لإفادة الموارنة من خير كنيستهم، سارع إلى وضع الحجر الأساس للمأسسة المنشودة عبر تعيين أمين سر للبطريركية. لكن الخطوة التي أرادها صفير إيجابية تحوّلت سلبية حين تبيّن أن الحجر الذي اختاره صفير، متفرّداً ودون استشارة مجلس المطارنة، لا يصلح للبناء عليه، فلُفلفت الفضيحة التي أثيرت في بكركي، وأقيل أمين السر من موقعه دون أن يعيّن غيره. وفي الوقت نفسه، كان المطارنة يتقاعدون وتشغر مواقعهم تحت أنظار الفاتيكان، دون أن يتمكن صفير من توفير البدلاء، فضلاً عن تنامي الهوة، تحت أنظار الفاتيكان أيضاً، بين البطريركية المارونية والرهبانيات.
أمّا خطوة صفير الثانية، فكانت جولاته على بعض البلدات المارونية في مناطق بعيدة جغرافياً عن بكركي (أو قريبة جداً كمنزل النائب السابق منصور البون). هنا أيضاً انقلب السحر على الساحر. فقد ذهب البطريرك وذهبت معه عيون الفاتيكان وآذانه، فبدا مشهد التخلّي الشعبي عن البطريرك واضحاً في الفاتيكان: بطريرك أنطاكيا يزور بلدة مارونيّة (القبيات مثلاً)، فلا يلاقيه في شوارعها عُشر أبنائها. وعيون الفاتيكان نفسها كانت تسجّل باستغراب كيف يصلّي البطريرك يوم الأحد في كنيسة ثلثاها فارغ، رغم صغر حجمها.
بالتزامن مع ذلك، باشر صفير في مسعاه الثالث، فضغط على نفسه للكفّ عن التصريحات السياسية المنحازة إلى فريق ضد آخر، التي تتبنى وجهة النظر المسيحية التي كانت هي السبب الأساسي لإقالة أو استقالة البطريرك خريش عام 1986 والمجيء بصفير بطريركاً. لكن، مرة جديدة، لم يوفَّق البطريرك، فعجزه عن نسيان أولئك المتظاهرين العونيين عام 1989 والهتّافين الزغرتاويين «إنت البطرك يا سليمان»، يمنعه، مهما حاول، من فتح صفحة جديدة. وهكذا عطّل صفير بكلمتين كلّ المسعى الفاتيكاني الذي تُوِّج بإشراك رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون في اجتماع مجلس المطارنة.

استقالة أو إقالة؟

في النتيجة، ذهب البطريرك إلى سينودس أساقفة الشرق في تشرين الأول 2010 مدركاً أنه سيكون الطرف الأضعف في حواره مع البابا بنديكتوس السادس عشر بشأن دور البطريركية المارونية في هذه المرحلة الصعبة بالنسبة إلى المسيحيين في بعض البلدان العربية. لكنّ المفاجأة كانت أنّ البابا لم يجد داعياً لمحاورة والد الكنيسة المارونية، واكتفى بأن أرسل إليه في مقرّ إقامته في المدرسة المارونية في روما، يوم الأربعاء 20 تشرين الأول، كلّاً من أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال برتوني ورئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ساندري، ليبلغاه (كما ذكرت «الأخبار» في 11 تشرين الثاني 2010) «بطريقة واضحة وناعمة وصريحة، ضرورة الاستقالة من أجل توفير استمرارية قوية للكنيسة المارونية». يومها، بحسب معلومات «الأخبار»، أظهر البطريرك استياءً شديداً، رافضاً التشكيك في قدرته على اتخاذ القرارات المناسبة، لكنّه أشار إلى استعداده للاستقالة إن كانت تلك مشيئة الكرسي الرسولي. وبعدها، خرج البطريرك وضيفاه إلى قاعة الطعام حيث كان ينتظر حشد من المطارنة الموارنة، وبعضهم يعلم الهدف من زيارة الضيفين. مرّت ساعة الغداء طويلة، في ظل انتظار الضيفين سماع البطريرك يبلغ زملاءه في المجمع الماروني نيّته الاستقالة، وهو ما لم يحصل. وفي ظلّ صمت البطريرك وشحوب وجهه، بحسب قول أحد المشاركين في الغداء، فضّل الضيفان عدم إثارة الموضوع وإعطاء البطريرك بعض الوقت لتجهيز نفسه.
لاحقاً، قبل نهاية تشرين الأول 2010، وبعد معاودة برتوني وساندري الاتصال بالبطريرك للاطمئنان «على صحته» إثر عودته من روما إلى بكركي، فهمَ صفير جدّية الفاتيكان، فبادر، آخذاً العبر من تجربة سلفه، إلى كتابة استقالته مُكرَهاً، وإرسالها إلى الفاتيكان.
حتى هذه النقطة، سيبدو كما لو أنّ صفير قد هُزم. لكنّ الحرب بالنسبة إلى الرجل الثمانيني لا تنتهي بهذه البساطة. ففيما تؤكد مصادر قريبة جداً من مركز القرار الفاتيكاني أنّ الاحتفال الماروني في روما سيقام في 23 شباط المقبل، لتُقبَل بعده (قبل نهاية شباط) استقالة البطريرك وتعلن الدعوة إلى انتخاب بطريرك جديد خلال مهلة تتراوح بين عشرة أيام وشهر (تنتهي مع انتهاء شهر آذار)، يؤكد مصدر قريب جداً من صفير أن الاستقالة لن تُقبل قبل اطمئنان الفاتيكان إلى اتفاق المطارنة الموارنة على هوية البطريرك المقبل أو قبولهم الذهاب إلى انتخابات ديموقراطية بهدوء، كما فعلت الرهبانية اللبنانية المارونية قبل ثلاثة أشهر. وهو أمر يبدو للمقرّبين من صفير مستحيلاً.
ويشار في هذا السياق إلى أن خبر تقديم البطريرك استقالته حافظ على سرّيته إلى أن بادر البطريرك إلى إبلاغ صديقه النائب السابق منصور البون بالخبر، وصفير يعلم جيداً أن البون لن ينام على خبر كهذا. ثمّ بادر البطريرك إلى إبلاغ معظم من يلتقيهم قراره هذا، في محاولة منه لدفع جميع اللاعبين إلى كشف أوراقهم وخروج الصراع بين المطارنة الموارنة على كرسي البطريركية المارونية إلى العلن. والأمل البطريركي، بحسب المصدر نفسه، كبير بأن يشتدّ التنافس إلى حدّ اقتناع الفاتيكان بأنّ وضع استقالة البطريرك في الجارور واستمراره بتصريف الأعمال، كما يفعل منذ سنوات عدّة، هما أفضل الكوابيس. إضافة إلى ذلك، فإنّ بكركي تنتظر وفود المؤيّدين لسيّد الصرح الحالي بهدف توجيه رسالة إلى من يعنيهم الأمر أنّ صفير ليس وحيداً؛ الأمانة العامة لقوى 14 آذار كلها معه.



الانتخابات حصلت!

تكاد تكون جميع مقاعد الطائرات المتّجهة إلى روما محجوزة هذه الأيام باسم مطارنة. اليوم، مثلاً، يسافر مطران جبيل بشارة الراعي إلى الفاتيكان التي سبقه إليها قبل يومين مطرانان، وسيلحق به الجمعة مطران رابع.
وتؤكّد المعلومات الفاتيكانية أنّ انتخاب البطريرك الجديد سيسبق تعيين المطارنة الثمانية الذين يفتقدهم المجمع اليوم، وخصوصاً أن أربعة من هؤلاء يشغلون منصب «نائب بطريركي»، ولا يمكن تعيين أربعة نواب لبطريرك مستقيل (حصل الأمر نفسه عام 1986 حين عيّن البابا الخوريين يوسف بشارة وخليل أبي نادر مطرانين إثر انتخاب صفير بطريركاً). وبالتالي، سيتمّ انتخاب أحد المطارنة الحاليين: الراعي مرشح قوي، مطرانا بيروت بولس مطر وزحلة منصور حبيقة يجدان من يسوّق لحضورهما القويّ في مجلس المطارنة أيضاً. المطران يوسف بشارة بدأ التجوال الانتخابي رغم صعوبة أن يستبدل الفاتيكان بطريركاً منحازاً بآخر أكثر انحيازاً. ورغم صغر سنّه، هناك من يرى أن مطران قبرص يوسف سويف مرشح جدي نتيجة علاقاته المميزة مع بعض النافذين في الفاتيكان. أما التوافقيون الأكثر جدية، فهم المطارنة غي نجيم وسمير مظلوم وسمعان عطا الله.
الكرسي الرسولي لن يجلس متفرجاً على تفجّر صراع مسيحي – مسيحي جديد داخل مجلس المطارنة هذه المرة. ولن تتردد روما في تزكية أحد المرشحين، على طريقتها. ويُرجَّح أن يكون البطريرك الجديد محلّ إجماع مسيحي ووطني، وفي العقد السادس من عمره، فلا يبقى على كرسيّ البطريركية ثلاثين عاماً.