رغم السوء السياسي المستحكم في العلاقة بين الرئيسين نبيه بري وفؤاد النسيورة، تُظهر برقيات السفارة الأميركية في بيروت أن ثمة الكثير مما كان مشتركاً في المواقف بينهما، خلال حرب تموز/ آب 2006. الرجلان اللذان أسّسا في الحرب شراكة لم تستمر، كانا مصرّين على تحقيق وقف لإطلاق النار في أسرع وقت ممكن. لم يربطا موقفهما ذاك بنتائج سياسية مباشرة، كما فعل غيرهما من السياسيين اللبنانيين. وإضافة إلى ذلك، عارض المفاوضان اللبنانيان نشرَ قوات دولية
تحت الفصل السابع، فضلاً عن تأكيدهما المستمر أهمية حل قضية مزارع شبعا. وتيرة التنسيق بينهما كانت يومية. ولكل منهما طريقته في إدارة المفاوضات. وبحسب ما يظهر في الوثائق التي حصلت عليها «الأخبار» من ويكيليكس، فإن بري تولى، إضافة إلى المفاوضات، حملة «إعلامية» يحاول من خلالها الضغط على محاوريه الأميركيين، مع تأكيده الدائم أن المقاومة ستنتصر.
منذ بداية الحرب، فصل بري مواقفه عن حزب الله. أكد لفيلتمان أكثر من مرة أنه لم يلتق الأمين العام لحزب الله منذ اندلاع القتال، قبل أن ينبّه السفير الأميركي إلى كونه «غير مسؤول عن رد حزب الله على أي عرض لوقف إطلاق النار، وما إذا كان الحزب سيطلق سراح الجنديين الإسرائيليين الأسيرين» (06BEIRUT2440). بعد ذلك، جزم بأن إسرائيل لن تفوز، سواء استمرت في ضرباتها الجوية، أو نقلت عملياتها إلى البر. ففي اليوم العاشر، قال إن إسرائيل لم تتمكن من الإضرار بقدرات حزب الله العسكرية، نافياً ما يقوله جيش الاحتلال عن قتل 100 مقاوم. يحاجج بري في هذه المقولة، مشيراً إلى أن حزب الله خسر 11 مقاتلاً لا غير، خلال الأيام العشرة الأولى من الحرب: «كلما قصفت إسرائيل منزلاً عائداً لشخص من حزب الله تقول إنها قتلت أحد المقاتلين. وبهذا المنطق، تكون إسرائيل قد قتلت 600 فرد من حركة أمل».
اعتاد فيلتمان أسلوب تعامل بري معه. يقول إن رئيس مجلس النواب يرجئ الكلام السياسي إلى أن ينهي انتقاداته الاعتيادية لما تقوم به إسرائيل. يصف السفير ذلك بدقة في بعض البرقيات. يقول إن بري يبرز له ملفاً يتضمن صوراً للإصابات البشرية التي ألحقتها إسرائيل بالجنوبيين، ثم ينادي النائب علي حسن خليل ليُشهِده على كلامه بشأن «مسح» إسرائيل لبعض القرى في الجنوب. وبرأي فيلتمان، لم يظهر بري مستعجلاً بشأن وقف إطلاق النار، منتظراً أقصى ما ستطلبه إسرائيل.
وبعدما رأى نتائج الأيام الأولى من القتال، أكد رئيس حركة أمل لفيلتمان أن حزب الله سينتصر، سواء توقف العدوان أو استمر، ولا فرق بين الحرب الجوية أو العمليات البرية. وإذا احتلت إسرائيل الجنوب، «فالشعب سيقاتل، لا حزب الله». و»سيكون بين المقاومين مقاتلون من حركة أمل». وبحسب بري، فإن أربعة من مقاتلي أمل موجودون أصلاً في مارون الراس، إلى جانب مقاتلي حزب الله.
ورغم صمود المقاومة في الجنوب بعد أسبوعين من المعارك، كانت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تصران على أمرين: نشر قوات متعددة الجنسيات، وعدم تضمين أي حل وقفاً لإطلاق النار. هذا ما أكده السفير الأميركي لرئيس مجلس النواب يوم 25 تموز (06BEIRUT2464). رد بري بشرح الظروف الإنسانية الصعبة للنازحين، مدعياً أن مسؤولين من حركة أمل يعملون إلى جانب الشرطة، من أجل ضمان عدم احتلال النازحين لمنازل فارغة، كما جرى في الحرب الأهلية. ثم تحدث عن الأعمال العسكرية الإسرائيلية، قائلاً إن أربعة مسؤولين من حركة أمل قتلوا في غارة إسرائيلية في النبطية، خلال محاولتهم نقل مساعدات طبية. ثم انتقل إلى الحديث عن ضرورة تضمين أي حل بنداً يتعلق بتبادل الأسرى. رفض ما تعلنه إسرائيل بشأن رفضها مكافأة «خاطفي الرهائن»، قائلاً إنها كانت مستعدة لتحرير آلاف الأسرى اللبنانيين والعرب لقاء الإفراج عن الطيار الإسرائيلي رون أراد. وبالنسبة للقوات المتعددة الجنسيات، سأل بري عن سبب عدم نشرها على جانبي الحدود، مؤكداً أن حزب الله لم يصل إلى وضع يستجدي فيه وقف إطلاق النار بأي شروط. أسهب في الحديث عن الوضع الميداني في الجنوب، وبالتحديد عن المعارك في محيط مدينة بنت جبيل التي «لم تتمكن القوات الإسرائيلية من دخولها بعد». فخلال 13 يوماً، لم تستطع إسرائيل سوى احتلال مارون الراس، يقول بري مضيفاً: «لكن مارون الراس ليست لوس أنجلس. فيها منزلان وحسب». وقبل نهاية اللقاء، يؤكد بري محورية حل قضية مزارع شبعا. «وإذا لم تتحرر، فسأعارض شخصياً نزع سلاح حزب الله. لكن إذا تحررت مزارع شبعا، فمَن سيكون بحاجة إلى حزب الله؟»، يسأل بري بحسب جيفري فيلتمان.
بعد 25 تموز 2006، انقطع التواصل بين بري وفيلتمان مدة عشرة أيام (أو أن الوثائق التي حصل عليها موقع ويكيليكس لم تتضمّن برقيات تغطي تلك الفترة). لكن الرجلين عادا ليلتقيا مجدداً يوم 5 آب (06BEIRUT2541)، حين أتى فيلتمان إلى مقر إقامة شاغل الرئاسة الثانية برفقة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، دايفيد ولش. اقترح الأخير حلاً من مرحلتين: تتضمن الأولى وقف العمليات الحربية، مع بقاء الجيش الإسرائيلي «حيث هو». أضاف ولش أن قضية الأسرى ستكون على حدة. رد بري، بحسب الوثيقة، قائلاً إنه يفهم وجهة نظر أولمرت بشأن عدم تبادل الأسرى. إلا أنه (بري) أرجع محاوريه إلى عمليات سابقة لتبادل الأسرى، كانت تتضمّن الإفراج عن آلاف الأسرى العرب مقابل عدد قليل من الجنود الإسرائيليين. لكن العملية هذه المرة ستؤدي إلى إطلاق سراح مقاتلين لبنانيين في مقابل جنديين إسرائيليين. وفوجئ الطرف الأميركي بكون بري يؤكد أن الجيش اللبناني سينتشر في الجنوب، وأنه سيقود شخصياً سيارة «جيب» تتقدم دبابات الجيش اللبناني. لكنه رفض اقتراح بقاء الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية، قائلاً إنه لا يضمن أن لا يستمر حزب الله بالقتال في هذه الحالة.
في اللقاءات اللاحقة، بقي الطرف الأميركي مصراً على العروض ذاتها. تحدث فيلتمان وولش عن أهمية نشر قوات متعددة الجنسيات (كان الأميركيون يستخدمون هذا المصطلح للقول إن القوات التي ستنتشر لن تكون تابعة للأمم المتحدة، وستتولى نزع سلاح حزب الله). وفي اجتماع يوم 9 آب 2006 (منشور أدناه)، هدّد بري بالانسحاب من المفاوضات إذا استمر الحديث عن تلك القوات. وفي اللقاء ذاته، أكد بري مجدداً أهمية الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا، قائلاً إن تحريرها يعني انتفاء الحاجة للمقاومة. على هذه النقطة، أصر بري في لقائه الأخير مع ولش (11 آب 2006، 06BEIRUT2600). طلب أن يُسجّل «للتاريخ» موقفه بأن عدم حل مسألة مزارع شبعا سيؤدي إلى استمرار «المشاكل مع إسرائيل».
كان الطرف الأميركي يعيد التأكيد على ضرورة نشر قوات متعددة الجنسيات بموجب الفصل السابع. ذكّرهم بتجربة القوات المتعددة الجنسيات في لبنان عام 1983، قائلاً إن الفصل السابع يشعره بالخوف، تماماً كما الصداقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
حاول ولش إغراء «الأستاذ» من خلال الطلب منه أن يأخذ في الاعتبار الانتصار الذي حققه. ففي السابق، يقول ولش، كان النقاش يدور حول قوات متعددة الجنسيات. لكن البحث يجري اليوم حول قوات اليونيفيل المعززة، «وبإمكانك نسبة هذا الأمر لنفسك»، ختم ولش. ردّ بري أتى على طريقته الفكاهية المعهودة، قائلاً إن اليونيفيل ينبغي لها أن تنتشر وفقاً للفصل «ستة ونص» من ميثاق الأمم المتحدة.
ناقش في تفاصيل اللحظة التالية لإعلان وقف إطلاق النار، مقترحاً العودة إلى لجنة مراقبة تفاهم نيسان 1996، لبحث أي خرق لإطلاق النار. أراد أن يحصل من الطرف الأميركي على تعهد بألا تعود إسرائيل إلى عملية عسكرية واسعة إذا أطلق حزب الله النار على جنود إسرائيليين موجودين داخل الأراضي اللبنانية، في الفترة الفاصلة بين وقف الأعمال العدائية وانتشار اليونيفيل. أما سبب إصراره، على ذمة الوثيقة، فيعود إلى كونه «لا يثق بحزب الله».