فاته الوقت. أهدر الفرصة. كان يجب أن يقول هذا الكلام قبل شهور. لم يعد هناك من فائدة لما يقول. التطورات تجاوزته. الناس كانوا يأملون غير ذلك. لم نرَ جديداً في ما أعلن وقال. إنه يشتري الوقت. ليس لديه نيّة بالتغيير.....صار عليه الرحيل!. هذه عيّنة من تعليقات العراعرة على خطاب الرئيس السوري بشار الأسد، أول من أمس. ولكن، قررت إدارة «الجزيرة» اتحافنا بشيء جديد، مثل رجل أطل من داخل الاستديو وصفته بأنه «رئيس ائتلاف سوريا أولاً».. جزم بأن إيران وحزب الله يتوليان أعمال القمع في سوريا، قبل أن يناشد رجب طيب أردوغان التدخل. لم يوضح لنا كيفية التدخل الذي يريده.
لكن من يسمعه ومن يتابع أركان مؤتمر أنطاليا لبقايا عملاء الاستخبارات الغربية، وتصريحات مناضلي الفايسبوك من بيروت وباريس وبروكسل والرياض وواشنطن، يعرف أنه ليس بين كل هؤلاء من لديه شيء يقوله، سوى عبارة واحدة: نريد إسقاط النظام!
حسناً، هذه هي الحقيقة الواضحة لدى هؤلاء. أما السؤال الآخر الجدير بالمتابعة، فهو عن حقيقة أن تركيا تريد أن تمارس هي، عبر جيشها وأمنها واستخباراتها، الرقابة التي تضمن عدم تعرض أي من النازحين السوريين إلى أراضيها لأي نوع من القمع إن عادوا إلى قراهم في منطقة جسر الشغور. يعني أنه بعدما فشلت محاولة تحويل منطقة درعا إلى بنغازي سوريا، ثم فشلت محاولة تحويل منطقة إدلب إلى بنغازي سوريا، وبعدما ستفشل قريباً محاولة تحويل منطقة قريبة من الحدود مع العراق إلى بنغازي، سيسعى بعض المجانين عندنا في لبنان إلى القيام بأنشطة عسى أن تثمر مكاناً يلجأ إليه تجمع من العراعرة السوريين لقيادة الثورة. ويبدو أن هؤلاء يستسهلون فكرة تحويل مناطق في شمال لبنان إلى هذه الوضعية.
إلا أن التطور الأبرز في أحداث سوريا لا يتصل فقط بإعلان رأس النظام الاستعداد العملاني للدخول في ورشة ستقود حتماً إلى تغييرات كبيرة. بل في قوله، واقتناعه بأن المحافظة على موقف سوريا المستقل في المنطقة وعدم الخضوع للإملاءات الأميركية، يتطلبان مثل هذه التغييرات. الجديد، هو أن كل سوريا اليوم بات على اقتناع بأن التغييرات يجب أن تشمل الفكر اليومي الذي ساد هذه البلاد طوال عقود عدة. وهو الفكر الذي أنتج إدارة وأمناً واقتصاداً وأنتج تسلطاً وفساداً وترهلاً. وبالتالي، لو كان بين العراعرة من يستجدي إصلاحاً حقيقياً، وحقناً للدماء، لكان دفع الرجل نحو المزيد من الخطوات العملية، لا الإصرار على مواقف فارغة هدفها الوحيد ترجمة مطالب الغرب المتوتر بإراقة المزيد من الدماء، باعتبار أن آلان جوبيه، مثلاً، يعتقد أن جيشاً غربياً سيكون جاهزاً للتدخل بغية إنقاذ الشعب السوري. يبدو أن هذا الغبي لم يعرف أن جاك شيراك وجورج بوش صارا في المنزل.
ومع ذلك، فإن الأزمة السورية ستكون أكثر سخونة، بعدما أظهرت حدّة التوتر الغربي واستمرار «الجزيرة» القناة في حربها على النظام من دون هوادة أن هناك حاجة إلى مزيد من الضغوط، دبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً، ولو تطلّب الأمر المزيد من الأكاذيب، أو محاولة إخفاء صورة الذين خرجوا أمس مناصرين للأسد، ومحاولة معارضين في الخارج تربطهم صلات واضحة مع الاستخبارات الخارجية، وصف مئات الألوف من المتظاهرين في دمشق وبقية المحافظات السورية بأنهم عناصر من الأمن والجيش... بدا واقع هؤلاء العراعرة، كما توتّر الغرب، شبيهاً إلى درجة كبيرة بتوتر فريق 14 آذار في لبنان بعد تأليف الحكومة الجديدة. وهو ما يعني أننا سنكون أقرب إلى مواجهة جديدة، أساسها رفع مستوى الضغوط الأميركية والأوروبية على سوريا، علماً بأن دبلوماسيين غربيين في دمشق عبّروا عن امتعاضهم لتجاهل تقاريرهم عن حقيقة الوضع في سوريا، ولفت الانتباه إلى المبالغات الإعلامية من جانب خصوم الأسد، وعن أن واقع النظام لا يزال أقوى بكثير مما يظن كثيرون، وأن السوريين الذين يحتلون الرتب الأولى والثانية والثالثة في إدارات الدولة والجيش والأجهزة الأمنية لا يزالون يقفون خلف الأسد.
وإذا كان العلاج الأمني الذي لجأ النظام إليه في سوريا لمواجهة مجموعات مسلحة قد تجاوز حدوده، وأدى إلى عمليات قمع وقتل لمتظاهرين من الذين ينشدون الإصلاح الحقيقي، فإن واقع المعارضة السورية اليوم يحتاج إلى إعادة نظر. ومثلما يجب على النظام التصرف بطريقة عاقلة وهادئة ويسير نحو الإصلاحات العميقة، فقد بات سؤال المعارضين الوطنيين، وخصوصاً الموجودين منهم في سوريا، ضرورياً بشأن موقفهم، وبشأن تعاطيهم مع الفئة المرتبطة بالمشروع الخارجي الهادف إلى وضع سوريا تحت وصاية خارجية بحجة حمايتها من الحكم، أو بحجة الإشراف على تطوير قوانينها، وخصوصاً أن التيار الانتهازي في الحركة الإسلامية الناشطة بات هو المحرك الرئيسي لكل الثورة المضادة التي تقودها الولايات المتحدة ضد الانتفاضات الإصلاحية في العالم العربي. وإذا لم تبادر هذه المعارضة إلى خطوات واضحة في هذا السياق، فإن السؤال عن شرعيتها الأخلاقية سيطفو إلى السطح.