لا داعي للمرور بالحدود اللبنانية الرسمية. فقبل الوصول إلى قرى وادي خالد تكون قد أصبحت «هاتفياً» في سوريا. تصل الرسائل النصية من وزارة السياحة مرحّبة بك في سوريا وينقطع الإرسال اللبناني نهائياً. عبوراً بمشتى حمود ومشتى حسن، شمالاً شمالاً تصبح نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً في سوريا. هنا الهيشة وهنا الرامة وهنا وادي خالد حيث غزلت الأرض واللهجة البدوية على الجباه السمراء حكاية إنسان واحد في دولتين.
نخوة العشائر وقيمها تعيش على الحدود، بكل ما للحدود من تجليّات تستغل طيبة أهل الأرض، ومنها التهريب و«العمل الأمني». إنسان واحد يعيش على خاصرة إقليمية. مرّ عليه كفر الواو بين سوريا ولبنان. تحوّل وادي خالد مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى بعض عنصرية تيار المستقبل تجاه السوريين، ثم وجد نفسه فجأة في قلب الأحداث السورية. اليوم لوادي خالد صفة جديدة، إذ يستضيف «النازحين». فماذا تفعل معهم الواو الكافرة؟

«الحقيقتان» الحريرية والسورية

تحوّلت قيادات تيار المستقبل الأهلية إلى منظمات إحصاء وتنظيم للمساعدات الوافدة من تركيا وقطر، باسم إغاثة السوريين. بعدما تعوّد مركز الدفاع المدني قتل الذباب كوظيفة ثابتة في قرية «الهيشة»، طرأ على يوميّاته نشاط جديد أكثر جدوى: قضية النازحين السوريين.
يفيد رئيس المركز محمد العلي بأنه لا قدرة للدفاع المدني ولا إمكانات لفعل أي شيء ولا شأن لعمله بصفته الرسمية. كله «تطوّعي». وبضيافته، يزوّدنا رفيقه «الحريريّ» مصطفى أحمد بورقة الإحصاءات وفيها أسماء العائلات النازحة من تلكلخ وبابا عمر في حمص، وعددها وفق الورقة المكتوبة باليد: 60 عائلة بمعدّل 4 أشخاص للأسرة الواحدة. يثني على المساعدات التركية والقطرية والسعودية عبر جمعية الإرشاد والبشائر الإسلاميّتين ويشكو من تغيّب الحكومة اللبنانية عن تقديم الهبات الإنسانية. يستغل الموضوع لإدانة كل من يهوى إدانته من الرئيس ميقاتي، وصولاً إلى حزب الله فإيران.
يتبادل الحريريون أطراف الحديث، وفيه: «وصل 5 آلاف نازح في أيار الماضي مع بدء حوادث تلكلخ والعريضة، ثم عاد بعضهم ووفد غيرهم من جسر الشغور والقصير وعادوا. واليوم، لدينا بعض من مناطق أخرى في حمص كالرستن وحي بابا عمر في المدينة. الهيئة العليا للإغاثة قدّمت الفرشات، الهيئة الطبية الدولية قدمت بعض الأدوية، ولكن الأساس في المواد الغذائية والمساعدات المستمرة من تركيا عبر جمعية الإرشاد ومن رجل الأعمال الإماراتي خلف أحمد الحبتور. إن أحداً لم يطلب إحصاءً، تأتي المساعدات من دون الاطّلاع مسبقاً على عدد النازحين».
يشرحون بخلفيات سياسية وطائفية لبنانية الأحداث السورية والانتفاضة ويتوسعون في وصف المجازر التي «ترتكبها طائفة بحق أخرى» ويطالبون، باسم النازحين بمزيد من المساعدات. فجأة، يجد «الحريري» نفسه سعيداً بروابطه السورية. يتذكر أن «بابا عمر الحمصية قلعة الفتوحات الإسلامية في التاريخ». يعود الفخر لمّاعاً في اعتزازهم بأمهاتهم السوريات. ثم يفيد مصطفى عن خاله «النازح» وابنة خالته «النازحة» في منزله.
في نهاية الزيارة، يقف أمام مركز الدفاع المدني مشيراً بيمناه إلى التلال السورية المقابلة: «هذه قرية من جماعتنا، وتلك قرية علويّة».
من مصطفى إلى منزل المختار محمد درغام، تنقلب الطاولة على الإحصاء الأولي. فمختار الهيشة يعرف أهلها وسكانها، عمره نحو أربعة عقود. يعيش مع زوجة وأربعة أولاد في منزل متواضع، ومثل أهل الوادي في غالبيتهم، يركن دراجة نارية أمام المنزل. يجلس على بساط الأرض وتلعب حوله ابنته الصغرى، شام، تحت شهادة في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية. رغم أنه بعثي، وأن هوى وادي خالد حريري، يشرح المختار طبيعة المجتمع. «في العلاقات الإنسانية يصطفّ أهل الوادي بعيداً عن السياسة. لهم طبيعة عشائرية. وفي المخترة كانت معركتنا تشبه معركة الفقراء في وجه الإقطاع ولم تكن سياسية». بعد الاطّلاع على ورقة الإحصاء، يرفع المختار حاجبيه ضاحكاً: «لن أقول شيئاً. ولكن على هذه اللائحة مبالغة كبيرة في الأرقام، البعض سجّل اسم والدته وهي سورية، البعض سجّل أسماء عائلات تعيش أساساً في القرى هنا وتعمل هنا، كما أن بعض تلك الأسماء عادت إلى منازلها في سوريا. وبعد إعادة التعداد، يتقلّص عدد النازحين السوريين إلى.... 15 عائلة معظمها من تلكلخ!».
يروي المختار كما يروي سواه قصة استغلال كبير يحصل ومتاجرة بالمساعدات. ويفيد بأن معظم من بقي من أهالي تلكلخ وجد لنفسه وظيفة وفضّل البقاء هنا لأن الأسواق والحركة مشلولة في مناطق سكنه، ومنهم من بقي وأرسل عائلته. كما للإحصاء الحريري خلفية تهوى المبالغة في أرقام النازحين، قد تكون للمختار البعثي خلفية تهوى تقليص الأرقام، لكنّه رافقنا إلى باب منزله، داعياً «تعالوا اليوم إلى ثانوية الهيشة حيث سيكون إفطار للنازحين تنظّمه جمعية الإرشاد، هناك تعرفون الحقيقة».
وبما أن النزوح في الهيشة يقتصر على استضافة الناس في البيوت، والمدرسة الحاضنة الأساسية تقع في الرامة، فإلى منزل مختار الرامة در.

أطفال سوريا والـ«40 حرامي»

وصولاً إلى منزل مختار الرامة علي البدوي، تفتح بوابات قصره كأنها قلعة سلطان القرية الفقيرة. عمّال حول منزله ينتظرون ضيوفه، وصبي سوري أشقر له من العمر 14 سنة يفتح الدار للزوار. في صالونه الضخم، تتسع المقاعد لثلاثين زائراً على الأقل، لكن المساحة مخصصة اليوم لعلب المساعدات الكثيرة: مواد غذائية من تركيا، ألبسة، تمر سعودي، علب مغلقة تفوق الخمسين وأكياس معونة غذائية ولباس خليجي أبيض...
في انتظار المختار، يدخل الصبي الأشقر. حين تسأله إذا كان يعمل لديه يجيب: «أنا نازح من تلكلخ»، ثم يرحل لتفادي الأسئلة. وقبل أن يعود بصحبة والده، تصل سيارة تابعة لجمعية الإرشاد الإسلامي ــــ التركية التمويل. تنزل آنستان وشاب بلباسهم التطوّعي وأوراقهم وقسائمهم الإحصائية إلى دار المختار. ترفض الجمعية بأشخاصها الثلاثة أن ترد السلام بشكل لائق على الصحافة. ويبدو أن التعليمات المعطاة لهم تقضي بتجنب الاحتكاك بالإعلاميين. أخيراً يدخل المختار . يوجّه تعليماته إلى أعضاء الجمعية وينشغل معهم، متجاهلاً وجود الصحافة. ثم يرسل معنا وفداً إلى مدرسة الرامة لرؤية النازحين.
على باب المدرسة، علب المساعدات الخالية مرمية وعليها إشارات مرسليها وأسماؤهم. في الداخل، حلقة أطفال يلعبون، يضحكون، يعيشون الثورة على طريقتهم. مزيج حزن وقلق وانتظار وفرح في عيونهم. مروراً بالصفوف المدرسية التي خصصت كل منها لعائلة، يفرز الأهالي أنفسهم في بيتهم الجديد «حارتنا نحنا وقرايبنا فوق».
ورغم الملصقات المكتوبة بالإنكليزية والتي توحي بأنها تعبر عن ظروف مشابهة لنكبة النزوح الفلسطيني، فإن عددهم يبلغ عشرين عائلة موزعة على عشرين غرفة.
في الصف الأول أمّ تحضن ابنها وتلاعبه، وفي الصف الثاني أولاد أوصدت أمّهم الباب لمنعهم من الخروج إلى ملعب المدرسة والاختلاط بالآخرين. الصف الثالث فيه حاجّة ترحل في غفوة الصيام على فراش أرض، وفي الصف الرابع علّق منشر غسيل فوق أمتعته القليلة. لا فائض علب مؤونة هنا ولا ترف كما في بيت المختار البدوي «الحريري». مطبخ مشترك لكل طابق، ولقمة محدودة تنتظر قسائم المختار. وفي استطلاع آرائهم، يجيب معظم الرجال: «لن نعود، إن عدنا سيعتقلوننا، ونحن نعمل هنا لنكسب العيش». عند السؤال عن حاجاتهم، ترفع الطفلة إصبعها إلى شفتيها وتفكّر. «أريد ثياباً جديدةً. فيكرر من بعدها كل واحد من أصدقائها، وأنا أيضاً أريد ملابس».
بعد الجولة، يتحوّم سكان المدرسة حول الزائر، وشكاواهم تبدأ من تلكلخ. ففي الحياة هنا، لا بأس بالظروف مقارنة بحياتهم القديمة في العريضة وتلكلخ. منهم من يظن في الزائر فرصة طلب مزيد من المساعدة، ومنهم من يجد فيه كتفاً للبكاء حسرة على الويلات التي وضعهم فيها «الأمن السوري».
في الأخذ والرد حدث شجار بينهم وصراخ، ألم المستغَل الضعيف انفجر سريعاً في حضرة الغريب. فحين باح أحدهم بشكوى نابعة من تضييق الأمن على المهربين، صاح الثاني: «لا تقل هذا، ألا تريد أن يسقط النظام؟». وحين قال آخر إن واحداً من أهداف حمل صفة نازح هو معيشي، سارع الثاني ليقولب جوابه ويقاطعه. لا يتفقون على شيء، إلا أنهم لا يريدون العودة ولو فتحت الحدود، ومنهم من يقول «ماذا فيها تلكلخ لأعود؟».
وحين يُسأل عن الإغاثات يردّ «اللقمة هنا أسهل، بمساعدات وبلا مساعدات، اللقمة هنا أسهل والحياة أفضل!»... يتبادلون الأدوار في الحديث فتتنوّع وجوههم حول الحديث نفسه: «لا أريد العودة»، وحدهن النساء ينظرن إلى أولادهن يلعبون ويهمسن: «مش حرام؟ هالأطفال بدها ترجع». وبعضهن الآخر يجيب «ربما حين يحين وقت المدرسة نعود مع الأطفال ويبقى الرجال هنا، أو نكون جمعنا ثمن إيجار البيت». فالسوري العامل لا يحب أن يجلس منتظراً إحسان أحد، حتى لو كان باسم الدين، كما هو حاصل الآن عبر الجمعيات الإسلاميّة التي تموّلها جهات خارجية. بعضهم يغضب كلّما رأى وجه القطري على لباس ابنه، وبعضهم الآخر يتسلم المعونة شاكراً وداعياً للمختار وقطر وتركيا بطول العمر.
ينادي أحدهم على صبي شقي اسمه بشار. نسأل لنجد أن النازح بشار له شقيقان وشقيقة وأنهم جميعاً يحملون أسماء أفراد عائلة الرئيس الراحل حافظ الأسد: باسل، بشار، ماهر وبشرى. فيصبح بشار تحت العيون: «ما قصتك مع اسمك»؟
قبل عام فقط كان عندما يسأل بشار الصغير عن اسمه يرد «على اسم السيد الرئيس». أما اليوم فيقول: «تحوّلت لأن والدي تحوّل، لم أعد أحبه، وسنعود بعد أن يسقط. لم أذهب إلى المدرسة لأني لن أجد وظيفة إن تعلّمت...». وقبل الغوص أكثر مع بشار، تناديه أمه فزعاً من «لسانه الطويل». يرد أحد الرجال: «لا تخافوا! لا خوف بعد اليوم!». ثم يأتي رجل أربعيني يتكلّم بجرأة بينهم عن تلكلخ والانتفاضة: «كل القصة اللقمة، أرسلت زوجتي وأولادي وبقيت هنا أعمل كورّاق في البناء، نحن مشكلتنا اللقمة، وكثير من أهالي تلكلخ يعملون في التهريب. القضية مجرّد مصلحة». هنا يزداد غضب المستمع الحريريّ، فيرد: «أنتم مزارعون ولستم مهربين»، فيزداد إصرار السوري: «لا، نحن مهربون لأنه ليس لنا وظيفة أخرى، ونحن هنا لأنه ليس لنا مكان أفضل للعيش والعمل في بلدنا».
في زحمة الصراخ الذي بدأ يتصاعد هروباً إلى مدخل المدرسة، يأتي شاب على دراجة نارية يهمس سريعاً: «ما في إعاشات، كلو سرقة بسرقة»، ثم يفر هارباً. ويلاقينا رجل آخر على دراجة أخرى يطلب دواء للقلب.

إمام تلكلخ في الهيشة

ضرب المدفع، فرشت جمعية الإرشاد إفطارها على الطاولات في ثانوية الهيشة. وتوزّعت بعض العائلات النازحة وأخرى من أهل الهيشة حول الطعام. على طاولة المشايخ، يجلس مزيجهم حول لقمة الخبز ذاتها بمحبة رغم اختلافهم. إمام جامع تلكلخ وقائد ثورتها إلى يمين المختار البعثي ويسار شيخ حريري.
يعرّف أحدهم عن نفسه «أنا أحمد من كردستان»، فيصرخ شيخ من رأس الطاولة: «اسكت أنت تريد قومية انفصالية، اسكت أنت وتابع أكلك». وحين يُطرح السؤال على الشيخ الصارخ «متى نعود؟»، يجيب «حين يسقط النظام»، ويشرح كيف يريد هو إسقاط النظام السوري كتمهيد لإسقاط القومية الفارسية التي تجتاح لبنان، فيتضح أن لهجته البدوية المشابهة للسوريين تخبئ شيخاً حريرياً لبنانياً. حينها ينطق شيخ تلكلخ: «قضيتنا لا تختصر هكذا».
زعيم تلكلخ، أسامة العكاري، شيخ ثلاثيني حدث معه أن الثورة وصلت إلى مسجده رغماً عنه: «يوم خرجت أول تظاهرة في تلكلخ، لم أكن أعلم، وقد أديت وقتها خطبة وطنية تكلمت فيها على أخطار الفتنة والسلاح، خرج الشباب ولا أنكر أنني فرحت بهم، لكني لم أكن أنا من حرّكهم».
تعاني تلكلخ من قبضة استخبارية ازدادت منذ نحو عام عندما قررت القوى الأمنية أن تزيد تضييقها على المهربين. قضت بذلك على مصدر أساسي للقمة مئات العائلات الحمصية أيضاً. ومنذ عام بدأ الهمّ المعيشي يشعل نقمة الأهالي.
بعد التظاهرة الأولى والثانية والثالثة، التقى الشيخ عدداً من كبار المسؤولين على صعيد المدينة ثم المحافظة حتى التقى في الأسبوع الرابع «الدكتور بشار» كما يسمّيه.
حين قابلت الرئيس ضمن وفد علماء حمص، أخذت منه وعداً بإطلاق المعتقلين بعد أسبوع على الأكثر. ذهبت وقلت لأهلي في تلكلخ إن الرئيس وعدنا. انتظرنا أسبوعين ولم يطلقوا أحداً. استمر الاحتجاج وأصبح الشعار «إسقاط النظام» بعدما كان «حرية». وذهبت إلى مركز الهجرة والجوازات لتجديد جواز السفر لأزور أخي في السعودية فقبضوا عليّ هناك. كان الرئيس قد ترك معنا رقم أحد معاونيه ليكون واسطة التواصل، ولجأت إليه وساعد في إخراجي».
عند السؤال عن أخيه يرد الشيخ: «أخي يعيش في السعودية من زمان وممنوع من العودة إلى سوريا»، لكنه لا يشرح السبب. المهم، بعد اعتقال الشيخ تأجج غضب تلكلخ أكثر فأطلق سراحه بسرعة.
بعدها، لجأ إلى قلعة الحصن فاراً من رجال الأمن ثم انتقل إلى لبنان «نهائياً». اليوم، يفيد الشيخ بأن تلكلخ، رغم القبضة الأمنية، تخرج في تظاهرات صغيرة، «نسمعهم صوتنا أننا لا نزال نريد إسقاط النظام، ثم يختفي الصوت بعد عشر دقائق». يعلن الشيخ أسامة العكاري أنه لا يزال قائد الثورة من الداخل وأن في حوزته هاتفاً سورياً وأنه لن يعود إلى سوريا إلا بسقوط النظام لأنه إن عاد سيُعتقل.
وبينما نتحدّث إلى الشيخ، تدير آنسة الجمعية التركية تظاهرة أطفال، تحمل ألعاباً في يديها وتمشي ويلحقونها، ثم يبدأ الصراخ «الشعب يريد إسقاط النظام». تحمل هاتفها وتصوّرهم. ينظر المختار البعثي اللبناني إلى صديقه الزعيم المعارض السوري ويضاحكه: «غداً ترسلون الصورة إلى «الجزيرة» يا مندسّين».