يوماً بعد يوم، تتفاقم عقدة البقاع الغربي في وجه تيار المستقبل: صراع على النيابة، وتململ في القاعدة الشعبية، ونمو للحلفاء «بوقاحة» في ساحته. أربعة أسماء على الأقل تحلم بكرسي في الندوة البرلمانية قرب الشيخ سعد غداً. قد يتأنّق واحدهم في ربطة عنقه ليأخذ صورة حكومية تذكارية. قد تلمع ساعة باهظة على معصمه. قد يكبر في مرآته كثيراً، لكنه، في القرية، ابن القرية، وفي تيار المستقبل مجرد واجهة. لمعالي الوزير محمد رحال وسيادة العميد محمد قدورة وسعادة النائبين زياد القادري وجمال الجراح صور أخرى في أذهان أهل المرج وجب جنين وكامد اللوز والبيرة.
تلك قرى تعدّ بعض الخزان البشري لتيار المستقبل. فيها يُعدّ كل من الأسماء المذكورة بيته ونفسه وعلاقاته طمعاً في نيابة الغد. بدأت رائحة الخلافات تفوح على كل المنطقة: بيانات وتقارير وشكاوى مضادة بينهم. وفيما يتصارع المستقبليون، تنزلق القاعدة يوماً بعد يوم، إلى التيارات الأخرى المتنامية في ساحة الحريري، كالجماعة الإسلامية وحزب التحرير.
محمد قدورة يشعر بأن بروز رحال في بلدته، جب جنين، قطع الطريق أمام زعامته المستقبلية. يسعى بفضل قربه التاريخي من بهية الحريري الى البقاء في الضوء، ويتذمّر من سلوك منافسيه في الدوائر المغلقة. لا حظوظ وفيرة للعميد، وخصوصاً أن رحال يهيئ نفسه لتسلّم قيادة التيار في المنطقة.
وفيما ينشغل الجراح في تبرئة نفسه من تهمة «إرسال السلاح إلى سوريا»، ينشط منافسه ورفيقه في التيار محمد رحال صوب البلديات، ويفعّل جمعيته الخاصة وخدماتها ووظائفها تحت اسم «لبنان للجميع». يقول رحال إن علاقاته العامة تأتي بتمويلات الجمعية وخدماتها، بينما تكثر أسئلة الناس عن سر رزقه السريع. وبدوره، يرتعد القادري خوفاً على وجوده الشبابي كلّما شاهد رحّال على التلفاز أو في احتفال في قرية ما.
ورغم المنافسة المستقبلية على الوجاهة، تبقى مشكلة المستقبل الكبرى تراخي قاعدته لمصلحة الآخرين. تتمدد الجماعة الإسلامية وحزب التحرير، وحتى الحزب الاشتراكي، في القرية المسماة «قريطم البقاع». غياب النواب وسكنهم شبه الدائم في بيروت يخلي الساحة لسواهم.
يكبر البقاع الغربي كالصداع في رأس الحريريَّين، أحمد وسعد، كل يوم. ورغم الموقف الوسطي لوليد جنبلاط، يستمر وائل أبو فاعور في الغزل السياسي على أرض التيار، ويفعّل مكتباً حزبياً اشتراكياً في كامد اللوز... يواجه المستقبل وفرة «رؤوس قد أينعت».
في المرج، لم يكن سهلاً على النائب الجراح أن يتقبل توزير محمد رحال. حتى الاشتراكي أزعجه الخبر، ونقلت الكواليس أن أبو فاعور زار رئيس الحكومة، آنذاك، سعد الحريري لينقل إليه عتباً على خطأ توزير رحال. بعضهم برر التوزير بأنه «نكاية بعبد الرحيم مراد»، لكن الحقيقة أن رحال، الذي ولد سياسياً في منزل مراد ومؤسساته، يمثّل منافسة حقيقية لنواب التيار.
وفي صراع التيار، كان ماضي رحال، ولا يزال، يلاحقه كالكوابيس، مرة بانتشار صورة قديمة له، وأخرى بذيوع خبر عنه في بيان موقّع باسم «شباب رفيق الحريري». يعيّرون رحال بأنه تدرج في العمل السياسي عند حسن عبد الرحيم مراد، عندما كان وزير المستقبل يشغل منصب مسؤول العلاقات العامة في «شباب الاتحاد». وكان، باعتباره «أحد أفراد البيت»، يوظّف خطيبته إلهام مدرّسة في الجامعة التي يملكها مراد، يتوسّط لفلان كي لا يدفع قسطه، وهلم جرّا. هكذا نما رحال وخدماته وعلاقاته تحت جناح أبو حسين، ثم انقلب عليه بعد خسارة النيابة عام 2005. ومن «المحاسن» المذكورة لرحال، قربه اللصيق من آخر ضابط للاستخبارات السورية في البقاع الغربي، وزيارته ووساطاته عبر السوريين. نقل البندقية من كتف إلى كتف بسهولة.
يستقبل رحال شتى أنواع المهنئين بالعيد، كاهن وشيخ ورؤساء بلديات ومخاتير، لكنه لا يستقبل النواب. يعلّق لوحة عامة في مدخل البيت ويعرض فيها خمس مقالات صحافية نشرت عنه حين كان وزير بيئة، أبرزها عن التحريج. بين المقالات، علق الوزير لوحة بيانية بأهم إنجازاته: مستوعبات للنفايات في بعض القرى، ولوّنها بالأصفر للفت النظر.
بالسؤال عن النيابة والمنافسة، يسيّس رحال جوابه من دون إنكار نيّته الترشّح لانتخابات 2013. يربط القرار، كما منافساه الجراح والقادري، برئيس التيار. «أنا عسكري عند سعد الحريري» يقول الوزير، غير مدرك أن عسكر الحريري الآخر يحاول جاهداً تشويه صورته.
رغم وجود القادري وقدورة على طاولة المنافسة، إلا أن الجراح يبقى «أخطر الحريريين». في 2009، تردّد أنه هو من اقترح استبدال أحمد فتوح بابن الشهيد ناظم القادري. الجراح يقطع الطريق أمام نمو منافسيه دائماً، لكن في أزمة نجومية رحال المتصاعدة، لم تعد أساليبه تنفع.
صديقي العزيز عبد الحليم خدام
على مفترق بيت «الأستاذ جمال»، تميل سيارات الجيب بزجاجها الأسود بطريقة أمنية وصولاً إلى المدخل. يترجل أربعة مرافقين بزيهم الأسود، ويتقدم أحدهم حاملاً الجاكيت. ينزل النائب إيلي ماروني ليلبسها ويدخل منزل صديقه معايداً.
في الجلسة يسرع ماروني للإجابة أحياناً عن أسئلة حليفه. في العلاقة مع جنبلاط وتقويم أدائه، مثلاً، يسرع إيلي بك: قبل سؤالنا عن حاجتنا إليه، عليكم أن تسألوا جنبلاط عن حاجته إلينا، لكن الجراح لا يوافق صديقه الكلام. فهو كان قد استقبل وائل أبو فاعور في وقت أبكر من ذلك اليوم، وهو يدري أن فارق الأصوات بينه وبين منافسه عبد الرحيم مراد لم يكن كبيراً، وأن وقوف جنبلاط في الوسط يعني حتماً تهديد نواب المستقبل.
يعرّج الحديث على أحداث سوريا. الجراح الذي يعرف أهل قريته مدى قربه السابق من ضباط الردع السوري، يريد الحرية للشعب السوري، من دون التجرؤ على المطالبة بحق النساء السعوديات بقيادة سياراتهن. «أريده أن يسقط كي أرتاح»، ثم يتابع: «نحن تذوقنا مرارة النظام السوري خلال هيمنته الطويلة على البقاع الغربي». وقبل أن يستطرد في وصف عداوته للنظام السوري يهجم السؤال إلى عقل السامع: «ألست صديقاً قديماً لعبد الحليم خدام؟». يرتفع حاجبه فوق ابتسامة ويجيب: «صديق قديم أعتز بصداقته». يدافع عن خدام الذي كان نجم الشاشة الإسرائيلية قبل بضعة أشهر: «في عبد الحليم خدام عروبة تكفي لمحاربة إسرائيل، والمقابلة كانت ملفّقة». هنا يبدأ ماروني بالتوتر... فخدام هو نفسه رمز «الوصاية السورية». يستأذن ماروني للخروج، ويكمل الجراح.
أما في قضية اتهامه بإرسال السلاح، فيوضح الجراح: «لا أتدخل في الشأن السوري. زرت الرئيس بري ورئيس الجمهورية وقلت لهما إنني مستعد للمثول أمام القضاء اللبناني دون حصانتي النيابية».
نصل إلى الحديث الأكثر حساسية: محمد رحال. رغم ذكاء الإجابة، لا يخفي الجراح منافسة رحال المتنامية لشعبيته. الجراح الذي كان الأخير على لائحة 14 آذار النيابية، يعرف أنه يُحارَب. وفيما يحاول تبييض صفحته ودحض الاتهامات الموجهة إليه، يشيع مقربون من رحال وقدورة أن قيادة تيارهم باتت مقتنعة بأن الرجل أصبح عبئاً على الحلف.
قبل توضيح علاقته برحال، يحرص الجراح على التذكير بموقع رحال السابق: «كان عند أبو حسين. هذا ليس عيباً في السياسة. أنا أخذت فرصتي في النيابة، وهو أخذ فرصته في الوزارة، وغداً إذا نوى الترشّح، فسيبت الشيخ سعد ذلك ونلتزم بقراره».
بين رحال والجراح، خلف الكلام المتبادل عن أن القرار النهائي عند الحريري، ثمة شغل يومي متبادل، وكلام وتقارير وبيانات يستهدف فيها واحدهما رفيقه. يكثر الكلام داخل التيار على «الجراح القواتي»، أو على رحال «تلميذ السوريين وصنيعة مراد».
وفيما يواجه الجراح خريف مساءلات الناس وضغطهم، تكبر أزمة جديدة تطاول رحال: تتقاطع تصريحات نواب فضلوا عدم ذكر أسمائهم لتفادي الدخول في متاهات إعلامية. يقولون في دردشات جانبية إن رحال كان «عرّاب الكسارات السريعة» في فترة تصريف أعمال حكومة الحريري، وإنه إذ أتى بمساعدات للبلديات عبر وزارة البيئة، أصبح فجأة مليونيراً. قبل أيام، سجّل قطعة أرض كبيرة باسمه في الدوائر العقارية، يسأل كثيرون اليوم عن ثروة المتخرّج من الحقوق الذي لم يكمل الأربعين من عمره.
في سؤال رحال عن أمواله والبلديات والكسارات، ينكر ويستنكر، ويجيب من دون أن يجيب: «أحلم بجمع الأموال كما أي شخص آخر». وهو يقرّ بأنه كان يعمل لدى عبد الرحيم مراد «وكل الناس في المنطقة كانوا يعملون لديه»، أما انتقاله وبعض زملائه من جيب مراد إلى جيب الحريري، فهو «ذكاء سياسي نادر».
يمدح رحال نفسه كلما نظر إلى المرآة أو تكلم للإعلام: «أنا ملك الـ PR» (أي العلاقات العامة). فتزداد «شردقة» الجراح بمياهه الزرقاء. ورغم أن رحال من صناعة أبو حسين، لا بل لأنه من صناعة مراد، أضاف في معركة 2009 النيابية ما لم يستطع أحد أن ينجزه: انقلب من عند عبد الرحيم مراد، واستقدم الـ pr إلى بيته في جب جنين، وفتح مكتباً لـ«استيعاب المعارضة»، عمل فيه على سلب مراد أكبر عدد من مؤيديه.
لكن ذلك لم يعد رصيداً يحسب له إلا في اجتماعات التخطيط في قيادة المستقبل. على الأرض، رغم توزير رحال في البيئة، لم يعر تلوث نهر الليطاني أيّ اهتمام، ومضى يجدد مستوعبات النفايات. يحاول إقناعك بأن النهر وتلوّثه مشكلة خاصة بوزارة الطاقة، كي يقتنص الفرصة لمهاجمة عون. يفكر لحظة ثم يعدّل جوابه: «ستفتتح محطات تكرير لتنظيف النهر في مختلف المناطق، ونحن سعينا إليها».
تلك المحطات، لها ملفات فقط في رئاسة اتحاد بلديات البحيرة، لرئيسه خالد شرانق، وراعيه إيلي الفرزلي، الذي بقي حتى اليوم الأقوى في جب جنين رغم نشاط رحال وقدورة.
بينما يتوتر وضع وجهاء التيار أكثر، تتراجع أرضه بين «الدكاكين». وأخيراً، حين أتى أحمد الحريري للاحتفاء بالمنطقة، صدمه الجمع المتراجع، وحين سأل، أجابه الأعوان: «تكاد الجماعة الإسلامية وحزب التحرير أن يخرجا عن السيطرة، ونحن مشغولون بأنفسنا».
بعد الزيارة، أصبح الحريري شبه مقتنع بتغيير هيكلية التيار في المنطقة. وبينما يزداد الصداع في رأس تيار المستقبل، تكبر المشكلة. في حيثيات القرى والعائلات والرؤوس المتنوعة، على الحريري اتخاذ القرارات التي تضمن عدم خسارته أحداً بسبب «الغيرة». هل ينجح الحريري بمراضاة كامد اللوز والبيرة والقرعون وجب جنين والمرج؟ جل ما يملك ثلاثة كراسٍ: مسؤولية التيار وكرسيان نيابيان للسنّة. كيفما رسا خياره، سيغضب بعض القاعدة وبعض الرؤوس... وفي ظل عودة أخصام السياسة إلى روح التباري القديمة، ووسطية جنبلاط، تسمى هذه الفترة رسمياً: «نكسة المستقبل». يجب الإقرار بأنه مهما «انتكس المستقبل»، لا يزال هو الأقوى على الساحة السنية الأكبر في المنطقة، إلا أن تكتّل القرى الدرزية والمسيحية والشيعية، مع عبد الرحيم مراد، الذي يأخذ ضلعاً سنياً مهماً، يمكن أن ينهي عهد سلطنة الجراح ورحال والحريري.