للدول مهما بلغت عظمتها سفارة واحدة في كل دولة. وحدها الفاتيكان تملك سفارة في كل قرية في أنحاء العالم. لا يحتاج الكرسي الرسولي إلى سفارة في سوريا ولا إلى قناة «الجزيرة» أو وكالة سانا ليعرف ما يحصل في المدن السورية. سينبئه مسيحيو المدن السورية والقرى النائية، التي لا تصلها مواكب السفراء ولا كاميرات المصورين، بكل ما يحصل عندهم: كل ما يسمعونه ويشاهدونه، وكل تحليلاتهم ومخاوفهم. يوفر هؤلاء جهازاً دبلوماسياً للفاتيكان يتجاوز بعديده أهم الأجهزة الدبلوماسية والاستخبارية في العالم، فضلاً عن أن صدقية من يكتب التقرير على شاكلة اعتراف كنسيّ أكبر بكثير ممن يكتب التقرير لقاء بدل مالي. هذه الدولة نفسها (الفاتيكان) تولي منذ عامين اهتماماً استثنائياً بما تطلق عليه «الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق». وقد تعاظمت مخاوفها على هذا الصعيد إلى حد الطلب من البطريرك الماروني نصر الله صفير الاستقالة وسهرت على انتخاب البطريرك بشارة الراعي بوصفه الأقدر بين زملائه المطارنة الموارنة على تحقيق التطلعات الفاتيكانية.
حين يزور الراعي فرنسا إذاً، يكون في حقيبته ملف متكامل عمّا يحصل في سوريا أعدته الدبلوماسية الفاتيكانية، يشمل هذا الملف: أولاً، معلومات ميدانية عن الأوضاع في سوريا، إضافةً إلى التحليلات والمخاوف. ثانياً، معلومات عن الخطط الأجنبية والسيناريوات الدولية لمعالجة الأزمة في سوريا (أو تصعيدها)، أعدتها الدبلوماسية الفاتيكانية التي يُروى الكثير عن نفوذها واختراقها معظم أجهزة الاستخبارات ومقاطعتها المعلومات بطريقة نادرة. ثالثاً، مجموعة أسئلة محددة وواضحة عن التدابير التي تنوي الدول العظمى اتخاذها لتضمن «الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق»، بعد تأكد الكنيسة من أن تدخل الغرب في الشرق لا يلحق غير الكوارث بالمسيحيين.
في فرنسا كان برنامج الراعي حافلاً، فبموازاة لقائه رئيس الدولة الفرنسية ورئيسي مجلسي الوزراء والنواب، التقى الراعي كاردينال باريس، الذي يشغل الموقع الدبلوماسي الأعلم بما تطبخه الدبلوماسية الفرنسية. ذهب الراعي حاملاً ملفاً متكاملاً. كانت أسئلته بالتالي واضحة ومحددة. يؤكد أحد الذين واكبوه في الزيارة أن غموض الأجوبة كان يدفعه إلى التصعيد أكثر فأكثر، مرة بعد مرة، بشأن الأزمة في سوريا. من يعرف الراعي جيداً، يعلم أنه خلافاً لبعض أسلافه، ليس بطريرك انفعال، بل بطريرك قلب وعقل. اختارته الفاتيكان لأنه رجل قلم وورقة وحسابات دقيقة. في هذا السياق لا بدّ من إعادة قراءة تأكيد «تفهمه لموقف الرئيس السوري بشار الأسد»، ومطالبته بإعطاء «الأسد فرصاً إضافية». ساءل الغرب في عقر داره: «عن أي ديموقراطية تتحدثون في ظل ما يحصل في العراق؟»، أجاب نفسه: «إنهم (من دون تحديد هوية الـ«هم») يستعملون الديموقراطية شعاراً لتغطية ما يقومون به»، مشيراً إلى أن «تأزم الوضع في سوريا أكثر مما هو عليه، سيوصل إلى السلطة حكماً أشد من الحكم الحالي، كحكم الإخوان المسلمين». ولا حاجة إلى الاستفسار من البطريرك عن المشكلة في حكم «الإخوان». فبالنسبة إليه، النتيجة معلومة مسبقاً: «المسيحيون هناك سيدفعون الثمن، سواء أكان قتلاً أم تهجيراً». فضلاً عن خشية الراعي من نشوء «تحالف بين الحكم السُّني في سوريا وإخوانهم السنّة في لبنان».
يؤكد بعض الذين يرافقون البطريرك تعبير الأخير في ما يخص سوريا عن قناعاته، التي ترسخت أكثر بعد سماعه كلام المسؤولين الفرنسيين. فيما يتحدث بعض المواكبين للراعي عن ثلاثة أسباب تدفعه إلى أن يقول في باريس ما لا يقوله حتى حين يستقبل السفير السوري في لبنان. وهذه الأسباب هي:
أولاً، المعلومات التي توافرت للبطريرك من مصادر متنوعة، أهمها تلك الفاتيكانية منها التي سبق الكلام عنها، عن تماسك النظام السوري وسيطرته على مختلف المدن السورية، واحتفاظه بالحد الأدنى من القوة الشعبية والقدرات التفاوضية الضروريتين لضمان استمراريته، مقابل عجز المحتجين عن الانطلاق بـ«الثورة»، في المعنى الجديّ للكلمة.
ثانياً، اكتشاف الراعي عدم وجود خطة دولية جدية لإطاحة الأسد أو حتى قرار بهذا الخصوص. ويقول أحد مرافقي البطريرك في زيارته إن الأخير سمع كلاماً من بعض المسؤولين الفرنسيين عن حق الشعوب في الحرية والديموقراطية يشبه كثيراً الكلام الذي كان يسمعه من أسلافهم عن حق اللبنانيين في الحرية والسيادة والاستقلال، كذلك سمع كلاماً جازماً بعدم وجود نية أو خطة غربية للتدخل العسكري في سوريا. وقد حرص الراعي على السؤال عن علاقة القيادة الفرنسية وأجهزة الاستخبارات بالمعارضين السوريين، ففوجئ بأن العلاقة سطحية جداً، وأن التنسيق الذي ازدهر في السنوات القليلة الماضية بين بعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية والاستخبارات السورية لم ينقطع بعد.
ثالثاً، تأكد البطريرك من أن الغرب لا يرى أي مشكلة في التحالف مع الجماعات الإسلامية المتشددة والإخوان المسلمين، ما دام هؤلاء يوفرون مصالح الغرب. وتأكد أيضاً أنه ليس على جدول أعمال الدول العظمى أية إشارة إلى ما يعرف بحقوق الأقليات الطائفية أو المخاوف الفاتيكانية على مسيحيي الشرق. مع العلم بأن الراعي يعبّر في بعض كلامه عن خشية فاتيكانية، تتنامى يوماً تلو الآخر، من التشدد الإسلامي. والأكيد هنا أن الراعي المدافع بقوة عن «ديموقراطية لبنان التوافقية»، سينحاز إلى تحالف الأقليات في المنطقة، إذا فرض عليه الاختيار بينه وبين حكم الأكثرية في المنطقة.
ما سبق، إضافة إلى النقاشات المستفيضة مع صناع القرار الدولي، أكدا للراعي، بحسب أحد المشاركين في الزيارة، أن الرئيس الأسد في طريقه إلى تجاوز الأزمة، وهو من دون شك باق في الموقع السوريّ الأول. ولا شك في هذا السياق في أن ما من عاقل كان سيتخذ مواقف كالتي صدرت عن الراعي أخيراً لو توافر لديه الحد الأدنى من المعلومات التي ترجح سقوط النظام. ولو شكّك الراعي بنسبة واحد في المئة في أن الرئيس السوري في طريقه إلى التنحي كما تمنى عليه الرئيس الأميركي لما كان قد قال بعض (لا كل) ما قاله.
معلومات «الأخبار» تؤكد أن أحد المطارنة المقربين جداً من البطريرك سيتوجه فور عودته والراعي من باريس إلى دمشق على رأس وفد مسيحيّ كبير للقاء الرئيس السوري بشار الأسد. فموقف الراعي ـــــ الفاتيكان لا يعبّر عن الكنيسة المارونية فحسب، هذا هو موقف الكنائس السريانية والأرثوذكسية والكاثوليكية.
قبل الراعي، أعلن المعاون البطريركي للروم الأرثوذكس المطران لوقا الخوري أن «سوريا هدف لمؤامرة شريرة سوداء تضافرت عليها جميع أحزاب الشيطان في الأرض، من آلهة البطش والدمار وأبناء الأفاعي».