كان حزب الله في أعوام الثمانينيات بالنسبة إلي وإلى العديد من أبناء جيلي في البيئة المسيحية اللبنانية تنظيماً للأشرار. وقد عزز الخطاب الإيراني الخميني بمصطلحاته ومفرداته هذه الصورة. وكان لـ"تصدير الثورة" معنى واحد: زعزعة استقرار لبنان ونظامه بالرايات الإسلامية العابرة لحدود الدول. وعلى عكس الصورة المخيفة لحزب الله، كان التفاهم مع "أمل" وارداً أكثر في اعتقادنا، لخروجها من الانتماء اللبناني للزعامة الشيعية في إطار رؤية الإمام موسى الصدر. مثّل علم أمل اللبنانيّ مصدر اطمئنان، عكس العلم الإيراني المرفوع فوق مراكز حزب الله. وأنا كنت لصيقاً بهذا الصدام بين لبنان كما أفهمه وحزب الله، نظراً لانتمائي إلى البيئة البقاعية التي شهدت في الثمانينيات فصولاً من الصدام بين الجيش اللبناني وحزب لله.
إقصاء الحالة العونية بعد الطائف ترافق مع إقصاء الحزب، وفي ظل التحولات المختلفة تكثر نقاط الالتقاء الحذر. يقترب حزب الله من الانخراط في الدولة، فنقترب أكثر من احترام مقاومته ودعمها "ولو كانت إسلامية". وكانت عملياته في الجنوب مصدر فخر وتقدير، مروراً بكل محطات الاعتداءات الإسرائيلية في 1993 و1996 وغيرها وصولاً إلى تحرير الجنوب. كنّا نرنو إلى تلك المقاومة بإعجاب وفخر، لكن مع استمرار التعارض في الأولويات نتيجة وضعنا الهيمنة السورية في طليعة التحديات الواجب مواجهتها. ولاحقاً ازدادت محطات الالتقاء للاختلاف أو الاتفاق، وازداد معها اكتشاف الآخر. تزامن ذلك مع تحول في البنية المعقدة الفكرية والسياسية لحزب الله، في دوائر انتماءاته الشيعية واللبنانية والعربية والإسلامية، والإيرانية بالمعنى الفقهي والاستراتيجي، ومع تحوّل مضاد في بحثنا عن جذور التلاقي اللبناني لاكتشاف جوانب الميثاقية اللبنانية على أرض الواقع والتماس الاجتماعي. فـ"المخيف" سابقاً هو شريك في المصير الواحد، وهو مستهدف، وما يجمعني معه أبعد من التقائي الحضاري والثقافي مع الدول الغربية، وأبعد من الاختلاف حول الإيديولوجيا ونمط الحياة الاجتماعي. وقد كانت التجربة بعد الـ2005 درساً لحزب الله في الحياة السياسية لاكتشاف من يضرب بسيفه ومن يمكنه الوثوق بإيجابية بناء جسور التفاهم معه.
اليوم، في وقت يخوض فيه مقاتلو حزب الله الحرب على تلال لبنان ضد التنين التكفيري، ويحيي ورثة عبد الحليم خدام وغازي كنعان تحالفاتهم، أجدني أكثر اقتناعاً بهذا التحالف الوجودي الذي يتعمد بالدم. ففي زمن "الحرب الوجودية"، تصبح كل الاختلافات وراءنا. مع الإشارة إلى أن التلاقي الاستراتيجي لا يحجب الملاحظات والاختلافات، وبالتحديد في مسألة بناء الدولة ومدى الترجمة العملية للشراكة مع المكوّن المسيحي.