من يعرف كيف قضى ــ إمام مسجد بلال بن رباح في عبرا ــ الشيخ أحمد الأسير أسابيعه الأخيرة، يتوصّل إلى خلاصة مفادها أن اليأس سلّمه إلى الأمن العام. فالشيخ الصيداوي الذي تقطّعت به السبل كان مطارداً من شقة إلى شقة. لم يعرف أين يذهب. حاول أن يهرب عبر عرسال، لكنه عَدَلَ عن خطته. تكشف المصادر الأمنية أن الأسير كان ينوي أن يتسلل عبر عرسال إلى الداخل السوري، إلى أي منطقة تخضع لسيطرة المعارضة السورية، على أن يُقرِّر بعدها إن كان سيبقى أو ينتقل منها إلى تركيا.
غير أن توقيف الجيش للشيخ السوري محمد يحيى الذي كان يستقل سيارة أحد مشايخ «هيئة علماء المسلمين» مرتدياً حزاماً ناسفاً في عرسال، ثم توقيف يعرب الفرج الملقب بيعرب أبو جبل في أحد مخيمات بر الياس، حيث مكث خشية الدخول إلى عرسال بعد توقيف الشيخ يحيى، علماً بأنه كان مخططاً أن يلحق بأحمد سيف الدين الملقب بـ«السلس» الذي سبقه إلى عرسال، كل هذه التوقيفات التي تزامنت مع عزل الجيش للبلدة البقاعية، دفعت بالأسير إلى قطع الأمل نهائياً في الخروج عبر عرسال بعدما طال انتظاره، لا سيما بعد توقيف أبرز المقرّبين منه: معتصم قدورة وخالد حبلص، علماً بأن الأول كان «الدينَمو» الذي سهر على توفير حاجيات الأسير ونقله من مكان إلى آخر. غير أن «بطل مقتلة عبرا» كان قد عزم على مغادرة لبنان، لا سيما بعد اقتراب «شبح التوقيف» منه أكثر من مرة، آخرها كانت بعد دهم استخبارات الجيش لإحدى الشقق إثر مغادرته لها بيومٍ واحد، والتي أصدر على إثرها تسجيلاً صوتياً قال فيه: «بحال قُتلت أو اعتُقلت، لا سيما أنّ الأجهزة الأمنية تبحث عني ولكنها عجزت بفضل الله، إلاّ أنّ الأمر ليس مستحيلاً.. ليس مستحيلاً أن أُعتقل أو أن أُقتل»، ثم ناشد «المجاهدين في العراق والشام» نصرته. كان الأسير يعلم جيداً أنه أصبح في خطر. هو لم يكن في مخيم «عين الحلوة» كما تردد في وسائل الإعلام، بل لم يدخله أصلاً، بحسب مقرّبين من الأسير، كذلك بحسب إفادات الموقوفين لدى المحكمة العسكرية، لكنه كان يتنقل في الفترة الأخيرة بين الشقق في صيدا التي عاد إليها من طرابلس إثر أحداث بحنين. غير أن معلومات خاصة بـ«الأخبار» تؤكد أن الأسير تنقل أكثر من مرة دخولاً وخروجاً من المخيم وإليه. حتى إنّه مكث فترة داخل المخيم قبل أن يقرر مغادرته لأسباب أمنية. ولذلك عزَم الأسير على مغادرة لبنان بأي طريقة.

كان الأمن العام يمتلك
معلومات مؤكدة عن أن الأسير ينوي مغادرة لبنان عبر المطار

لم يكن أمامه سوى البحر تهريباً نحو تركيا، أو مطار بيروت بعدما سُدّ سبيل عرسال في وجهه. لم يُعرف لماذا اختار الأسير المطار على التهريب بحراً، لا سيما أن الحلقة الضيقة المحيطة به (شقيقه أمجد وأبناؤه الثلاثة عبدالرحمن وعمر ومحمد والشيخ يوسف حنينة ومعتصم قدّروة) كانت حتماً ستتحرك معه. إزاء ذلك، وبعد اختيار الشيخ الفار الهرب جوّاً عبر مصر إلى نيجيريا، بحسب بيان الأمن العام، حصل الأسير على بطاقات ثبوتية مزوّرة مع جواز سفر مزوّر، لا تستبعد المصادر أن يكون مصدرها المخيم. لكن لم يُعرف بعد إن كان الشيخ حنينة أو شقيق الأسير أو أحد أبنائه قد سبقوه في الخروج بالطريقة نفسها عبر المطار لاختبار مقدار المخاطر المحتملة.
أما كيف أوقف أحمد الأسير وبماذا اعترف؟ كيف اكتشف الأمن العام هوية الأسير؟ هل وشى به المُزوِّر أم أنّ مخبراً للأجهزة سرّب المعلومة أم تقف الصدفة وحدها وعيب في الوثائق المزوّرة خلف فضحه؟ مع الأخذ في الاعتبار استحالة تحديد هويته بسبب التعديلات التي أضفاها على هيئته، علماً بأن المؤكد أن الأسير لم يخضع لأي عملية تجميل، بل اتّكل على التعديل في هيئته الخارجية. وقد بدت بشرته أكثر بياضاً من ذي قبل، نتيجة عدم تعرضه لأشعة الشمس، لكونه لم يكن يخرج نهاراً. وفي هذا السياق، فإن مصادر رفيعة في الأمن العام لا تزال تتكتّم على تسريب أيّ من اعترافاته إلى حدّ الآن لأسباب تتعلق بحُسن سير التحقيق. وإذ تؤكد هذه المصادر أن «القبض على الأسير كان نتيجة جهد متراكم»، إلا أنها تلفت إلى أن «نهاية القصة جرت بمعظمها في المطار». ورغم أنه سوف يُنشر الكثير في الإعلام، وستختلط المعلومات الصحيحة بالمفبركة، وقد تضيع الحقيقة إلى حين قبل أن تتكشّف الوقائع الصحيحة، لكن تُنقل روايتان في هذا الخصوص. الرواية الأولى تكشف أن الصدفة لعبت دوراً أساسياً في توقيف الأسير، مشيرة إلى أنّ عنصر الأمن العام اشتبه في الأسير بعدما ارتاب بأمر جواز سفره، فاستُدعي للتحقيق معه. ويستند أصحاب هذه الفرضية إلى صورة كاميرا المراقبة التي نشرتها «قناة الجديد»، أول من أمس، للأسير لحظة توقيفه. وتُظهر الصورة عنصراً وحيداً يسير إلى جانب الأسير من دون توقيفه، ومن دون وجود ضابط أو حتى أي مظاهر استنفار أمني، لا سيما أن باقي العناصر الذين يظهرون في الصورة بدوا مشغولين بعملهم كأن ما يجري أمر اعتيادي. وتضيف المصادر على هذه الرواية أن الأجهزة الأمنية، وتحديداً الأمن العام، كانت تمتلك معلومات مؤكدة عن أن الأسير ينوي مغادرة لبنان عبر مطار بيروت. أما الرواية الثانية التي تُتداول، فتكشف أن جواز السفر وبطاقة الهوية الفلسطينية جرى تزويرهما داخل المخيم، مشيرة إلى أن الامن العام تمكّن من اختراق الدائرة التي تؤمن الدعم اللوجستي للأسير، فحصل على الاسم الذي اختير للشيخ الفار في الوثائق الثبوتية المزورة، وهو خالد العباسي. وعلى هذا الأساس، جرى تعميم الاسم في المطار من دون تحديد السبب أو حتى الكشف عن أنّه الأسير. وعندما حُدِّد يوم السفر، ولدى مرور خالد العباسي المفترض على عنصر الأمن العام، جرى استدعاؤه ثم أوقف فوراً، ليتبين فعلاً أنّه الشيخ الفار أحمد الأسير.
أما سير محاكمة موقوفي عبرا بعد توقيف العقل المدبّر، فتكشف المصادر القضائية وجود مسارين. الأول أن يُرسل الأمن العام إشعار توقيف أحمد الأسير إلى المحكمة العسكرية صباح اليوم. وبحسب المعلومات، إن وصل طلب التوقيف، يرجئ رئيس المحكمة العسكرية العميد خليل إبراهيم جلسة المحاكمة نهار الثلاثاء إلى أجلٍ محدد، فتؤجل المرافعات على أن يسير في استجواب متفرّع من الملف نهار الثلاثاء فقط، أي استجواب مروان أبو ضهر الذي أوقف بناءً على إفادة الموقوف علاء المغربي الذي أدلى باعترافات قلبت مسار المحاكمة لأهميتها. أما المسار الثاني، وهو المستبعد، فيتمثّل في أن يحيل الأمن العام الموقوف أحمد الأسير على المحكمة العسكرية، ليُلحق بجلسة المحاكمة التي تُعقد صباح غد الثلاثاء، أسوة بمحاكمة الموقوفين مروان أبو ضهر وعلاء المغربي اللذين أوقفا خلال الأسابيع الأخيرة واستُجوب أحدهما لأول مرة أمام المحكمة العسكرية في الجلسة ما قبل الأخيرة. وذكرت مصادر قضائية لـ«الأخبار» أن دون سير المحاكمات، إذا سُلِك هذا المسار، عدة عقبات، إذ لا وجود لمحامٍ يترافع عن الأسير، سواء إن اختار الموقوف تعيين محامٍ أو قررت المحكمة الطلب من نقابة المحامين تعيين محامٍ من المعونة القضائية.