دمشق | حال من التقشُّف وتضييق النفقات يعيشها سكان سوريا هذه الأيام، بما تبقّى من طبقة وسطى وفقيرة. أما مَن هم في حال مادية جيدة أو أفضل، فيبذلون قُصارى جهدهم لمنع تدهور أوضاعهم وتبدُّل موقعهم في سلّم الطبقات الاجتماعية في البلاد.في الوقت نفسه، بات من الواضح أن نقصاً في الموارد تشهده سوريا مع تزايد الشكاوى من نقص في مادة المازوت التي ازداد الطلب عليها مع قدوم فصل الشتاء، ما دفع البعض للتوجه إلى خيارات أخرى طلباً للتدفئة.
أما المواد الغذائية، فتشهد بدورها ارتفاعاً متدرجاً في الأسعار ينذر بأزمة كبرى، مترافقاً مع جمود في حركة الأسواق بما أن الجميع يقبض بيديه على ما بقي من مال لديه، مترقّباً تطورات المشهد السياسي ومستقبله.
رامي (25 سنة) شاب يعمل في شركة لتنظيم المعارض والمؤتمرات، يقول إن مؤسسته اتخذت إجراءات للحدّ من خسائرها مع تطور الأزمة في البلاد، وإلغاء عشرات المعارض التي كان متوقعاً تنظيمها في دمشق والمدن السورية. إجراءات بدأت بتقليص فترات الدوام اليومي مروراً بخفض رواتب الأجراء، وتجميد النفقات «غير الضرورية»، لتصل في النهاية إلى تسريح الموظفين بدفعات جماعية، مع دفع جزء من التعويضات لهم. ويقول الشاب إن حالته كانت أفضل بكثير ممّن جرى تسريحهم في شركات أخرى، حيث أُرغموا على التعهد خطياً بعدم المطالبة بأي تعويض أو حتى اللجوء إلى القضاء، وهؤلاء بحسب قوله هم العاملون في القطاع السياحي خصوصاً، إضافة إلى عشرات العمال في مصانع القطاع الخاص. ويتابع رامي «أحاول عدم شراء أي شيء يصنّف في خانة الكماليات، حتى إنني ألغيت اشتراكي في العديد من الأنشطة الترفيهية، وعدلتُ عن تعلُّم لغة جديدة، وأسعى جاهداً إلى الحفاظ على ما لدي من حصيلة مالية، فأنا واثق بأن الأيام المقبلة ستكون أكثر من سيئة». كذلك يحمّل رامي مَن يسميهم «الثورجية» المسؤولية الأساسية عن الأزمة، جازماً بأنّ «العقوبات الخارجية المتخذة بحق سوريا لن تضرّ النظام بقدر ما تضرّ الشعب». وهنا يتساءل: «هل تعني الثورة والحرية أن تقطع أرزاق الناس وتشرّد الأسر ذات الدخل المحدود؟ إن هذه الثورة قد أعادتنا سنوات إلى الخلف».
في المقابل، فإنّ المحامية ندى (55 عاماً)، تشير إلى أنها سعت إلى تأمين المازوت للتدفئة، غير أنّ جميع المزوِّدين أبلغوها عدم توافر المادة، في ظلّ طلب الشركة الحكومية للتوزيع مهلة شهر. وتتحدث السيدة الدمشقية عن بيع المادة بسعر أعلى من السعر النظامي المحدَّد الذي خفضته الحكومة وفق قرار صدر مع بداية الاحتجاجات. وهذا الارتفاع الغريب في سعر المازوت هو ما دفع السوريين إلى البحث عن خيارات أخرى للتدفئة، كالغاز الذي تضاعف سعره أيضاً بسبب كثرة الطلب عليه، وكذلك الكهرباء التي بدأت تنقطع يومياً مع إشارات بدء تطبيق نظام التقنين (انظر الكادر). و«إذا كان هذا هو الوضع في العاصمة دمشق، فما بالك في حمص وحماة والمدن التي تعيش تحت خط النار؟»، وفق تعابير ندى التي تعرب عن تخوُّفها من حديث المسؤولين الأتراك عن حزمة عقوبات يعدّونها ضد سوريا، وأبرزها إيقاف إمداد سوريا بالكهرباء، ما سيعني ازدياداً في انقطاع التيار الكهربائي عن المدن السورية.
أما عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فتشير المحامية إلى غلاء متدرج في السعر، لكنه لم يصل بعد إلى حدود قصوى، بسبب إنتاج معظم المواد داخل سوريا، بحسب ندى التي تستدرك بتشاؤم في توقّعها أن تتّسع أزمة الأسعار إن استمر الوضع على ما هو عليه، «وخصوصاً إن كانت كمية الأمطار التي ستهطل غير كافية»، في إشارة إلى الموسم الزراعي. وفي الحديث عن أزمة الكهرباء، يشير أحد الموظفين في مؤسسة الطاقة الكهربائية إلى أن برنامجاً للتقنين قد اعتُمد ليشمل كافة المناطق، ويستمر ساعة يومياً «قد تطول أكثر مع تقدم أيام الشتاء».
وقد دفعت أزمة المازوت تحديداً وزير النفط السوري سفيان العلاو إلى اتخاذ إجراءات لعلّها تسهم في الحد من الأزمة، من خلال «زيادة الاعتماد على سيارات التوزيع المباشر في دمشق وريفها، وإعادة النظر في الكميات المخصصة لمحطات الوقود التي لا تقوم بدورها في توزيع مادة المازوت، وإضافة الكميات التي يجري خفضها من هذه المحطات إلى الكميات المخصصة للتوزيع المباشر، إلى جانب التنسيق مع المحافظين لتأليف لجان وتكليف مجالس القرى والفرق الحزبية للمساعدة في عمليات التوزيع»، علماً بأن سوريا تستورد سنوياً 2 مليون متر مكعب من المازوت (المتر المكعب يساوي ألف ليتر)، وهي تحتاج إلى 70 باخرة، أي ما يقدر بباخرة كل أسبوع. ولم يقتصر الأمر على وزارة النفط، إذ عقد مجلس الشعب، أمس، جلسة خاصة بأزمة المازوت «وضرورة تسهيل حصول المواطنين على هذه المادة»، وفق رئيس المجلس محمود الأبرش.
من جهتها، تشدد ردينة (29 سنة) التي تعمل في إحدى شركات الطيران على أن السياحة هي المتضرر الأول من الأزمة اليوم، بما أنّ عدداً من شركات الطيران العاملة في دمشق قد ألغت أو قلّلت من رحلاتها قدر الإمكان، من دون أن يكون لذلك صلة بالعقوبات الأوروبية. وتفسّر هذا الأمر بأن بعض الشركات الأوروبية لا تزال تسيّر رحلاتها إلى دمشق والعكس صحيح، «لكنّ نسبة الحجوزات تبدو قليلة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، بما أنّ الموسم السياحي يبدأ في سوريا في الخريف بين شهري أيلول وتشرين الثاني». وبينما تصل نسبة إشغال الفنادق إلى الصفر، فإنّ عدداً كبيراً من السوريين فضّلوا إلغاء أو تأجيل رحلاتهم إلى الخارج، وخاصة تلك المتعلقة بالترفيه، وتحديداً إلى تركيا ومصر وقبرص، لكون «اليوم لا أحد يفكر في السياحة». وتتوقع ردينة أن يستمر الجمود السياحي لفترة طويلة، حتى بعد انتهاء الأزمة السياسية والأمنية، سواء لمصلحة النظام أو معارضيه، بعدما تلاشى معنى أن «سوريا أكثر بلدان العالم أمناً» مع أزيز الرصاص وحمامات الدم.
أما عامر، الموظف في إحدى وكالات السيارات في ريف دمشق، فيلاحظ أنّ حجم مبيعات السيارات الجديدة تراجع بنحو حاد، رغم إلغاء الحكومة لقرار حظر الاستيراد، أضف أنّ بعض التجار قلّصوا من حجم استيرادهم، وهو ما خفّف من آثار الأزمة التي فاقمتها قرارات بعض المصارف بوقف تمويل عمليات شراء السيارات. في المقلب الآخر، فإنّ سوق السيارات المستعملة قد شهد انتعاشاً نسبياً نتيجة رخص سعرها مقارنة بنظيرتها الحديثة.
ولكن هذا الحراك لم يصل إلى مستويات كبرى، لا بل إن حركة نشطة لبيع السيارات الخاصة من قبل المواطنين ستشهدها البلاد قريباً إذا استمرت الضغوط الاقتصادية على حالها. إلا أن القلق الاقتصادي الأكبر يصيب التجار أكثر من غيرهم، حتى إن كثيرين منهم يعربون عن مخاوفهم من حجم العقوبات التي لوّح وزراء الخارجية العرب باتخاذها بحق سوريا.
وفي السياق، يتوقع البعض أن يُجمّد الاستيراد من سوريا، ما ينذر بأن تصيب البلاد كارثة اقتصادية كبرى ستضرب الصناعة السورية، وخصوصاً أن ميزان التجارة مع العرب يميل لمصلحة سوريا. كذلك يتخوّف التجار من تجميد قد يطال مناطق التجارة الحرة مع الدول العربية، كالعراق خصوصاً، صاحب النصيب الأكبر في عمليات الاستيراد والتصدير، يليه لبنان والأردن، وهو ما يُضاف إلى حزم العقوبات الأوروبية والأميركية التي عرقلت تعامل السوريين مع الكثير من المصارف خارج البلاد، مع تحول سوريا إلى التعامل باليورو وإيقاف تعاملها بالدولار، علماً بأن كلا العملتين شهدتا ارتفاعاً ملحوظاً أمام العملة السورية أخيراً.
أما الرابح الأكبر من الحالة العامة في سوريا، فهو قطاع البناء. ففي غياب الرقابة الأمنية، نشطت حركة الإعمار في مناطق شتى، أبرزها احياء العشوائيات والمخالفات التي تُرجمت بتشييد أبنية بطبقات عدة وبسرعة قياسية، ما أدى إلى طلب متزايد على مواد البناء، وبالتالي ارتفاع قياسي في أسعارها أيضاً، وهو ما درّ أرباحاً جيدة على العاملين في هذا القطاع. ورغم هدم البلديات بعض المخالفات، يعود أصحابها إلى البناء من جديد كأن شيئاً لم يكن، وهكذا تشهد مدن بأكملها دورة متكررة بين الهدم ثم البناء.



تقنين مرشَّح للازدياد

أوضح مصدر خاص في المؤسسة العامة لتوزيع واستثمار الطاقة الكهربائية لموقع «شام برس» أنه جرى اعتماد برنامج معيّن لتقنين الطاقة الكهربائية لدى المؤسسة في جميع أنحاء سوريا، وبنحو عادل ودون تمييز بين منطقة أو أخرى. وبحسب المصدر، بدأ البرنامج بمدة تقنين لا تتجاوز ساعة واحدة، مشيراً إلى أنه مع حلول فصل الشتاء وازدياد الطلب على الكهرباء، وخاصة استخدامها في التدفئة، سيؤدي ذلك إلى زيادة مدة التقنين. وأشار المصدر إلى أنه كان هناك نقص في الطاقة الكهربائية أمس يقدر بـ600 ميغاواط جرى توزيعها على مختلف المناطق لتلافي هذا النقص، وذكر المصدر أن المؤسسة ستعلن هذا البرنامج قريباً. ويتخوّف السوريون من أن تنفّذ تركيا تهديداتها بوقف إمداد سوريا بالكهرباء الساري منذ عام 2006، إذ إنّ ذلك سيزيد من ساعات التقنين.