لم تؤثر أساليب القوى الأمنية في قمع المتظاهرين يوم السبت على حشد يوم أمس. بل على العكس، عدد المواطنين الذين لبّوا دعوة حملة «طلعت ريحتكم» الى تظاهرة أمس، رداً على «سلوك العسكر» كان أكبر بشكل لافت.«تمددت» الجماهير من ساحة رياض الصلح، وصولاً الى جامع محمد الأمين، كذلك من شارع المصارف باتجاه الساحة، حيث غصّت بالمعتصمين القادمين من مختلف المناطق.

باكراً، ضجّ نهار السرايا بصراخ المعتصمين الذين تجمعوا استكمالاً لمسار السبت: «الثورة حتى إسقاط النظام»، منتظرين تصريح رئيس الحكومة تمام سلام «الموعود». في خطابه، أعلن سلام أن «الحلول السحرية أو الجذرية أو العجائبية غير موجودة»، وبالتالي أقرّ بعجز الحكومة التي يرأسها وتوجه الى المعتصمين بالقول: «تملكون الحق بأن تقفوا في وجه ما يحصل»، قبل أن يختم: «أنا صابر، ولكن للصبر الحدود وصبري مرتبط بصبركم، وإذا قررتم الصبر فأنا معكم، وإذا قررتم عدم الصبر أنا معكم أيضاً».
محاولة التأثير التي حاول سلام أن يمررها في هذا الخطاب، لم تنطو على المعتصمين الغاضبين الذين بدأوا بمطالبته بالرحيل وتقديم الاستقالة. وما كان من «طلعت ريحتكم»، إلا أن دعت في بيان الى تظاهرة حاشدة عند السادسة من مساء، أمس، بعنوان «لا لإرهاب سلطة الفساد»، مطالبة باستقالة سلام.
واستباقاً للتظاهرة، أصدرت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ــ شعبة العلاقات العامة، بياناً، طلبت فيه من المتظاهرين «التحلي بالمسؤولية والحرص على عدم تشويه تحركهم السلمي»، مؤكدة «احترامها الكلي لحق المواطنين في حرية التعبير والتظاهر السلمي». وقالت المديرية إن القوى الأمنية «بحكم مسؤوليتها عن حفظ الأمن، ترى نفسها مسؤولة عن حماية المؤسسات الرسمية في كل الظروف، وبالوسائل القانونية، للحؤول دون إقدام مندسين بين المتظاهرين للاعتداء على مقار المؤسسات التشريعية والتنفيذية، كما على الأملاك الخاصة، وذلك تجنباً لحصول أعمال يصعب تداركها».
حاولت الحملة الالتزام بتوصيات قوى الأمن، وطالبتها بدورها بـ»تنظيف الساحة من المندسّين». ولم تنفك خلال التظاهرة تؤكد انتهاجها السلميّة سبيلاً للاعتصام.

محاولة التأثير التي حاول سلام أن يمررها لم تنطو على المعتصمين


قبل المساء، الأجواء السائدة كانت هادئة وسلمية، عائلات وحشود من مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية والطائفية، كانت «تطوف» في الساحة. قرب سيارات النقل المباشر، يقف مسنّ يحاول أن يشق طريقه نحو «قلب» التظاهرة، حيث الحشود المكتظة، سعياً الى المشاركة في «صراخ» إسقاط النظام. «شي بيجنن»، هكذا يصف ابراهيم عباس (72 عاماً)، القادم سيراً على الأقدام من سن الفيل، مشهد الاعتصام، لافتاً الى «أمل» التغيير، «إذا مش ع أيامنا هلق، ع أيام أحفادنا». ألا تخشى القنابل وخراطيم المياه؟ «اللي عاش الحرب ما بيخاف، ما شي بيخوف أكثر من الحرب»، يجيب العم ويكمل محاولته «الدخول».
مشهد العم ابراهيم، يقابله مشهد كريم سعادة (7 سنوات)، القادم من المزرعة مع أهله، يحمل طنجرة صغيرة ويضرب عليها، صارخاً لإسقاط النظام. كريم يريد إسقاط الـ»ministre» (الوزير)، لا يدرك اسم الوزير الذي يريد إسقاطه، لكنه يقول شارحاً: «هيدا اللي بياخد مصاري مننا، وبيكبلنا زبالة على بيوتنا». يعتقد كريم أن الاحتجاج يمكن أن يسقط الـ «ministre»، «بكرا بينطوش وبيفل». إلا أن رؤية شقيقته كِنْدة (9 سنوات) مختلفة عنه، إذ تعتقد أن هذا الاحتجاج مفيد «لأن العالم متضايقة من شغلة واحدة، مش كل واحد عم يحكي عن شغلة لحال».
لن يستغرق المشارك في التظاهرة وقتاً كي يدرك حجم «التنوع» الذي يسود بين المتظاهرين القادمين من صور والضنية وبعلبك وعكار. علي حلاني (21 عاماً)، أتى من الحلانية (بعلبك) ويحلم بمطلب واحد: شغل وكهربا وماي. يشكو الشاب من البطالة ومن حرمانه من أدنى مقومات العيش. تسأله إذا ما كان محزباً فيصارحك بالقول: «أنا ابن حزب الله، بس مش طايق حدا من الأحزاب، كلن مسؤولين عن وجعنا، ولو السيد حسن طلب مني ما إنزل بدي إنزل، لأني موجوع». تسأله عن رأيه في «السلمية»، فسرعان ما يجيب: «أنا عقلي غلّة، ومحروق ديني، لو بقدر بقتلن كلن».
يختلف المشاركون في رؤيتهم حول ضرورة انتهاج السلمية، منهم من يعتقد أن «السلمية ضرورية لضمان تحقيق المطالب» ومنهم يؤمنون بأن «العنف ضروري لإسقاط هذا النظام العنيف أصلاً». إلا أن ما يُجمع عليه هؤلاء هو أن ما حفّزهم للنزول الى الشارع هو «العنف الذي مورس بحق المعتصمين السبت».
لم تلتزم القوى الأمنية بمضمون بيانها طويلاً. عند بداية المساء، بدأت رشّ المتظاهرين بخراطيم المياه ردّاً على «شغب» المتظاهرين الذين، وفق رواية القوى الأمنية، ألقوا قنبلة مولوتوف صوبهم.
خلال هذه الفترة، تقلّص عدد المتظاهرين وبات مقتصراً على بعض الشبان الغاضبين الذين لجأوا الى إحراق دراجة نارية تابعة لقوى الأمن الداخلي ونجحوا في تمزيق جزء من الأسلاك الشائكة. المفارقة تكمن في أن مياه القوى الأمنية نفدت، فما كان منها إلا أن لجأت الى تخويف المتظاهرين بسيارات «الإطفائية»، فضلاً عن إلقائها قنابل مسيّلة للدموع. إلا أن اللافت كان لجوء هذه القوى الى رشق الحجارة على المتظاهرين. حينها، طالبت «طلعت ريحتكم»، المتظاهرين بالانسحاب من الاعتصام، داعية الى تظاهرة اليوم، ومشيرة الى أن «أعمال العنف هذه لا تمثّل ما تصبو إليه الحملة»، ملمحة الى وجود «مندسّين»، فيما أصر الشبان على البقاء في ساحة رياض الصلح لمواجهة حكم «العسكر»، وللمطالبة بـ»ثورتهم» المرجوة. الكثير من الإصابات سجّلت في صفوف هؤلاء الشبان، الذين اختلفت «التسمية» حولهم بين «مندسين» و»ثورويين».
لم تسلم وسائل الإعلام من سلوك «العسكر»، إذ تعرّض عدد من الصحافيين لإصابات بسبب القنابل ورشق الحجارة.
من جهته، استنكر نقيب محرري الصحافة اللبنانية الياس عون «تعرض الزملاء الإعلاميين والمصورين للعنف على أيدي القوى الأمنية». كما وجه مجلس نقابة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع تحية إكبار الى جموع المواطنين الذين انتفضوا في وسط بيروت، مديناً بشدة تصرف القوى الأمنية في قمع المتظاهرين، من دون تمييز بين مواطن يصرخ من وجعه وبين إعلامي يسعى جاهداً لنقل حقيقة ما يجري.