بالنسبة إلى معظم اليسار، فإن السيناريو الذي ساد في العقدين الماضيين، أنه خلال حقبة ما بعد الحرب (العالمية)، كان «حكم السياسة» هو القاعدة، فقد كانت الحكومات الديموقراطية، ولا سيّما في أوروبا، هي التي ترسم بنشاط النتائج الاقتصادية بما يلبّي احتياجات مواطنيها. إلّا أنه في أواخر القرن العشرين، بدأ هذا النظام الذي ساد في فترة ما بعد الحرب بالتدهور، واليوم تهيمن الأسواق على السياسة، تاركة الحكومات الديموقراطية غير قادرة على رسم النتائج الاقتصادية وتلبية احتياجات مواطنيها. وبالنتيجة، إن من يحكم اليوم هو رأس المال الطليق والشركات.
يجادل توماس بيكيتي، مثلاً، في أن رأس المال يتبع قوانينه الخاصة التي لا يمكن الحكومات الديموقراطية أن تقف في وجهها. ويؤكّد ولفغانغ ستريك، أيضاً، أن الرأسمالية تقوّض الديموقراطية. وكما يشرح، فإنه من الخيال الطوباوي التأكيد أنهما ستتصالحان. ويوافق كلاوس أوفّي على ذلك، مؤكّداً أن «أسواق اليوم هي التي تملي الأجندة السياسية» وأن «المواطنين فقدوا القدرة على التأثير في حكوماتهم».
ولكن ماذا لو كان ذلك خطأً؟ ماذا لو كانت الديموقراطية هي التي تمسك زمام السلطة الآن كما كانت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ ماذا لو لم يكن نظامنا الاقتصادي الحالي نتيجة للديناميكيات الحتميّة للرأسمالية أو الأسواق، بل نتيجة قرارات سياسية هادفة اتخذتها الحكومات الديموقراطية؟ وماذا لو لم تكن أهمّ المحرّكات والمستفيدين من هذه القرارات هي الشركات الكبرى «الطليقة»، بل أشخاصاً من أمثال قرّاء Social Europe؟

كتاب استفزازي جديد
يمكن العثور على هذا الخطاب البديل في كتاب استفزازي جديد للاقتصاديين السياسيين المعروفين والمؤثّرين، توربن إيفرسن وديفيد سوسكايس، بعنوان «الديموقراطية والازدهار. إعادة اختراع الرأسمالية في قرنٍ مضطرب»Democracy and Prosperity. Reinventing Capitalism Through a Turbulent Century. ووفق المؤلّفين، إن «السيناريو» الذي ساد العقود الماضية هو الآتي: جعلت التقنيات الجديدة للمعلومات والاتصالات في أواخر القرن العشرين، من ظهور نظام اقتصادي جديد، أمراً ممكناً، ولكن ليس حتمياً. وكي تجري عملية تحوّل في الرأسمالية، من الضروري فرض إصلاحات هائلة. فمثلاً، مقارنةً بالاقتصادات الصناعية الفوردية، تتطلّب اقتصادات المعرفة ابتكاراً متواصلاً ومخاطرة، إضافة إلى قوة عاملة ذات تعليم عالي وتتمتّع بالمرونة. وهذه الأمور تتطلّب في المقابل من الحكومات وضع سياسات تشجّع التنافس وتروّج لمنتجات مالية جديدة وتوسّع التعليم العالي.


وتحتاج هذه الإصلاحات تغييراً هائلاً على مستوى الضوابط التنظيمية والمؤسّسات، وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق إلّا على يد الدول التي تتمتع بمستويات عالية من القدرة والشرعية، وهو السبب الذي جعل الدول المتقدّمة في طليعة تلك التي انتقلت إلى اقتصاد المعرفة وذهبت بعيداً في تطبيقه. أما الدول ذات الدخل المتوسّط التي غالباً ما تكون ذات أنظمة ضعيفة وغير ديموقراطية، فعادةً ما تكون غير قادرة على تطبيق هذه الإصلاحات. كذلك إن الديكتاتوريات مثل الاتحاد السوفياتي (السابق)، الذي يقال إنه «كانت لديه الخبرة العلمية الحاسوبية المركزية بين سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته ليتطوّر إلى اقتصاد معرفة»، تواجه أيضاً صعوبة في تحقيق هذا الانتقال نظراً إلى أن الإصلاحات الضرورية ستتطلّب من القيادات التخلّي عن السيطرة السياسية والاقتصادية.
والمفارقة أنه حتى الآن، هذا «السيناريو» يتبع سيناريو آخر مألوفاً لدى معظم قرّاء هذا الموقع، رواه كارل بولاني في كتابه «التحوّل العظيم» (على الرغم من أن إيفرسن وسوسكايس لا يذكرانه). وكما حاجج بولاني في أن الانتقال إلى الرأسمالية لم يكن نتيجة التوسّع الحتمي للأسواق، بل نتيجة قرارات سياسية ملموسة، يحاجج إيفرسن وسوسكايس بأن تحوّل الرأسمالية في القرن العشرين كان نتيجة قرارات اتخذتها حكومات منتخبة ديموقراطياً. ولكنهما ذهبا أبعد من ذلك، إذ لم يكتفيا برفض الفكرة التي تزداد رواجاً في اليسار اليوم، بأن الرأسمالية والديموقراطية مبدآن متضاربان، بل يذهبان إلى حدّ اعتبار أنهما يعتمد بعضهما على بعض، لأنه من دون دول قويّة وشرعية، لا يمكن الرأسمالية أن تعيد اختراع نفسها باستمرار.
والديموقراطية، كما يتفق إيفرسن وسوسكايس، ليست مجرّد «لجنة تنفيذية» كما هي بالنسبة إلى لينين، من الشركات الطليقة التي يقلّل معظم المحلّلين من شأن سلطتها. وعلى عكس الشركات التي تتطلّب مهارات منخفضة ويمكنها التنقّل بسهولة بين المواقع، تعتمد الشركات القائمة على المعرفة، على بيئات تنظيمية ومالية وتعليمية خاصة، فضلاً عن قوى عاملة ذات تعليم عالٍ من الصعب نقلها من موقع إلى آخر، ولا سيّما إلى بلدان أخرى. وهذا الاستقرار الجغرافي يعني أنه على الرغم من أن الشركات القائمة على المعرفة «قد تكون نافذة في السوق، إلّا أن نفوذها الهيكلي ضئيل والمنافسة تجعلها ضعيفة سياسياً».

مطالب الطبقة الوسطى
إن لم يحرّك رأس المال الطليق تحوّل الديموقراطية أو قرارات الحكومة بشكل عام في الفترة الأخيرة فمن يفعل ذلك؟
السياسيون يريدون الفوز في الانتخابات، ومن أجل ذلك عليهم إقناع المواطنين - ولا سيّما الذين من المرجّح أن يشاركوا في التصويت والحياة السياسية - بأنّهم سيعملون لمصلحتهم. لذلك نُفِّذَت سياسات «التوسّع في التعليم العالي، وإضفاء الطابع المالي على الاقتصاد وتحرير التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، واستهداف التضخّم، والقواعد المتينة للمنافسة»، نظراً إلى رغبة السياسيين في «تلبية مطالب الطبقة الوسطى لتحسين معايير المعيشة».
ولكن، كما تحوّلت الرأسمالية، تحوّلت أيضاً الطبقات والعلاقات بينها (هنا نضيف بعضاً من أفكار ماركس إلى أفكار بولاني). فالشركات التي تقوم على المعرفة، تتجمّع في المدن حيث تقع شركات مماثلة ويعيش موظّفون من ذوي التعليم العالي، وبالتالي تنعزل أماكن العمل التابعة لها بنحو كبير، إلى درجة لا تتيح الكثير من الاختلاط بين موظّفيها والطبقات الوسطى والعاملة. أما العمّال من ذوي التعليم المنخفض، فيتركّزون بنحو متزايد في وظائف قطاع الخدمات المنخفض الإنتاجية. وبالتالي تولّد الرأسمالية المتقدّمة طبقة وسطى جديدة تختلف تجاربها الحياتية ومصالحها كثيراً عن تجارب الطبقات الوسطى والعاملة القديمة ومصالحها. ونظراً إلى أن الطبقات الوسطى الجديدة تتركّز في المدن، تولّد النزاعات الطبقية الجديدة نزاعات جغرافية جديدة (المدن الكبرى مقابل الضواحي). ويترتّب على ذلك تداعيات سياسة عميقة.
واستقرار هذه الطبقة الوسطى الجديدة في المدن والتعليم المتقدّم الذي تحصل عليه وتنوّع علاقاتها الاجتماعية وغير ذلك، تجعلها متقدّمة اجتماعياً أكثر من الطبقات الوسطى والأدنى القديمة. ومجدّداً، يصرّ ماركس وإيفرسن وسوسكايس على أن «جذور التقدميين الاجتماعيين والشعبويين مختلفة، وتكمن في أجزاء مختلفة من الاقتصاد». هذا غير صحيح، لذلك من أجل «فصل هذه القيم عن الواقع الاقتصادي»، يرفض إيفرسن وسوسكايس الميل المُهيمن في تحليلات السياسات الأميركية - السائد على التحليلات في أوروبا أيضاً - إلى التركيز على النزعات والمواقف الاجتماعية أو على «ردّ فعل عكسي» ثقافي لدى محاولة شرح أنماط التصويت الحديثة أو الاتجاهات السياسية، نظراً إلى أن مثل هذه التحليلات تنقصها الأسباب الهيكلية الأعمق للمشاكل المعاصرة.
ولكن إن كان موقعهم في اقتصاد المعرفة يجعل أفراد الطبقة الوسطى الجديدة تقدّميين اجتماعياً، يمكنه أن يجعلهم تقدميين أقلّ من الناحية الاقتصادية، نظراً إلى أن مصالحهم وتجاربهم لا تتقاطع مع مصالح الطبقات القديمة الوسطى والأدنى وتجاربها. لهذا، إن انعدام المساواة المتنامي المصاحب لتحوّل الرأسمالية لم يواجَه بشكل فعّال بإعادة توزيع متزايدة: فالطبقة الوسطى القديمة عدائية تجاه الفقراء، بينما الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة غير معنيّة بمحنة الطبقة الوسطى المتدهورة - فاللوم يقع على النظام الديموقراطي وليس على السلطة السياسية مالكة رأس المال.

تغيير تحويلي
في الخلاصة، إلى أين يأخذنا كلّ ذلك؟ إلى سبب للأمل نظراً إلى أن الديموقراطية تتمتّع بقوة تحقيق التغيير التحويلي، ونظراً إلى أن الشرط المُسبق لهذا التغيير هم الناخبون أساساً، ولا سيّما «الرابحون» اقتصادياً والتحالفات بينهم، وليس الشركات التي تحدّد ما على الحكومات فعله، ما يزيد من الدعم لإعادة التوزيع ويضاعف عدد التحالفات التي تؤيّدها.
المفتاح هنا هو القدرة على الحركة اجتماعياً، فهي التي تربط مصالح أفراد الطبقات المختلفة بعضهم ببعض، فالذين في الطبقات الأدنى يمكنهم أن يتوقّعوا أنهم أو أطفالهم سيصعدون السلّم الطبقي، وأن الذين في الطبقة العليا لا يمكنهم أن يكونوا واثقين تماماً من أنهم هم أو أطفالهم لن ينزلوا السلّم الطبقي. ففي عالم حيث الحركة أسهل على السلّم الاجتماعي، تتقلّص الفجوة في المصالح بين الطبقات وتصبح عبارات مثل «نحن جميعاً على المركب نفسه» أو «الشركة الطبقية» ذات معنى أكثر. ولكن حين تكون الحركة أصعب تصبح الطبقات الوسطى والأدنى أكثر عرضة للتأثر بالشعبويين، الذين «يهاجمون رموز الاقتصاد الجديد»، وهو اقتصاد يشعرون هم وأطفالهم بأنهم سيبقون خارجه دائماً.
بعبارة أخرى، تزدهر الشعبوية حيث لا تقدّم الديموقراطية الفرص للجميع. وإيفرسن وسوسكايس يقدّمان بيانات مثيرة للاهتمام للغاية حول الفرق بين النزعات الشعبوية والتصويت الشعبوي، تُظهر أنه «حيث العقبات أمام التعليم الجيّد وتعزيز المهارات منخفضة، تكون القيم الشعبوية أقل هيمنة». (ويحاججان أيضاً في أن هناك نزعة قويّة لدى الأشخاص ذوي المهارات المنخفضة إلى أن يصوّتوا للشعبويين). وتوسيع الفرص يعني قبل كل شيء توسيع الوصول إلى التعليم وتحسين نوعيّته نظراً إلى أن التعليم يحدّد ما إذا كان «الخاسرون» وأطفالهم لديهم الفرصة ليصبحوا «فائزين» عبر اكتساب مهارات جديدة.
سيعارض كثيرون في اليسار العديد من الجوانب في تحليل إيفرسن وسوسكايس، لكن السجال في كيفية تطوّر الرأسمالية والظروف المواتية للديموقراطية لتعيد رسم النتائج الاقتصادية لإفادة غالبية كبيرة من المواطنين، ضروري جدّاً إذا كان اليسار يريد الازدهار ومواجهة الشعبوية. ونأمل أن يُسهم كتاب «الديموقراطية والازدهار» في إطلاق هذا السجال.

* Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي

* شيري بيرمان: أستاذة في العلوم السياسية في كلية برنارد، ومؤلّفة كتاب «الديموقراطية والديكتاتورية في أوروبا. منذ النظام القديم إلى يومنا هذا»Democracy and Dictatorship in Europe. From the Ancient Régime to the Present Day، الصادر عن دار نشر جامعة أوكسفورد.