دائماً ما تؤدّي التغيّرات الهيكلية في مجالات الطاقة والمال إلى عواقب جيوسياسية كبيرة. النظام النقدي الذي تمّ إنشاؤه في «بريتون وودز» كان مرتكزاً على الدولار وصمّمه «المعماريون» الأميركيون كمصدر للقوّة الأميركية. وتوافق ذلك مع حقيقة أنّ الولايات المتحدة كانت أكبر منتج للنفط في العالم وتتحكّم بإدارة دول أوروبا الغربية لاعتمادها على النفط في الشرق الأوسط. لكن، لأن الاقتصاد الأميركي أصبح يعتمد أيضاً على واردات النفط الأجنبية، قام الرئيس ريتشارد نيكسون بتمزيق نظام «بريتون وودز» بالكامل خلال عطلة نهاية الأسبوع في كامب ديفيد في السبعينيات. أما الآن، فنحن نعيش في عالم جيوسياسي تشكّل من خلال تحوّل آخر في مجالَي الطاقة والنقد في النصف الثاني من العقد الأول للألفية الحالية، وما زالت عواقبه تظهر بعد عقد من الزمن مع بدء ثورة الطاقة الخضراء.في بحث عن تفسير شامل لاضطرابات العقد الماضي، نبدأ من فرضية أن العديد من السرديات التاريخية المختلفة تتداخل لتُنتج الواقع الذي نعيشه اليوم. وبالتأكيد، هناك عوامل محدّدة تفسّر الانعكاس البارز لهذه الاضطرابات على الديموقراطيات الفردية، خصوصاً بالنسبة لأميركا. ومع ذلك، يمكن فهم الاضطراب الذي نعيشه اليوم على أنه نشأ عن مجموعة صدمات هيكلية، انتقلت آثارها من مكان إلى آخر وبين المجالات السياسية والجيوسياسية والاقتصادية.


تتم اليوم عملية إعادة صياغة الجغرافيا الاقتصادية والسياسية للعالم. فمنذ الثمانينيات، خلق التحول الصناعي في آسيا وتطور تكنولوجيا الكمبيوتر، مساحة اقتصادية تربط أميركا الشمالية وأوروبا الغربية بالأجزاء الأكثر ازدهاراً من آسيا. لكن التحوّل المتزامن للبنية التحتية الصينية نحو أوراسيا والمنافسة التكنولوجية مع الولايات المتحدة قلّل من ذلك الفضاء الاقتصادي العابر للمحيط. ولأن أوراسيا بدأت تتّخذ شكلاً اقتصادياً جديداً، فإنّ انعكاسات التطوّر في أي جزء منها كان يتردّد صداه عبر العالم كله، فيما أصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، وشهدت محاولة تحويل الشرق الأوسط الغني بالطاقة إلى مجال نفوذ أميركي. فقد تسبّبت القوّة الأميركية في زعزعة استقرار الشرق الأوسط وتركيا، ما جعل أوروبا أكثر عرضة، سياسياً، للأحداث في جوارها الجنوبي الشرقي.
وفي الوقت نفسه، فإن البيئة النقدية لما بعد عام 2008، أصبح لديها قدرة ضعيفة على امتصاص الصدمات، ما شكّل مصدراً إضافياً لعدم الاستقرار. هذا الأمر سمح بمستويات تاريخيّة من الديون بمستويات منخفضة من الفائدة. لقد ثبت أن هذا الوضع مزعزع لاستقرار منطقة اليورو بشكل خاص، والتي استغرقت وقتاً طويلاً للتكيّف، بعدما بُنيت بشكل صارم في عالم شكله مختلف جذرياً عن عالم اليوم. في غضون ذلك، صدّرت منطقة اليورو مشكلاتها الهيكلية إلى الاتحاد الأوروبي الأوسع.
يؤدّي التفاعل بين المجالات الجيوسياسية والنقدية إلى تضخيم انعكاسات ما يحدث في كل منهما. فطفرة النفط الصخري الأميركية، التي اندلعت باستخدام الديون، تحدّت قوّة الطاقة السعودية والروسية، ما أدّى إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وأوروبا. وفي هذا الوقت، سمحت سياسة تمويل المصارف المركزية للديون بحدوث تغييرات مزعزعة للاستقرار جيوسياسياً، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون قيود بسبب الذعر في الأسواق المالية. ونظراً لأن العالم النقدي الحالي يعزّز القوّة المالية الأميركية، أصبحت السياسة النقدية الآن أكثر جيوسياسية ممّا كانت عليه سابقاً. فالاحتياطي الفيدرالي الأميركي يحدّد الدول التي لديها إمكانية الوصول إلى الائتمان بالدولار في أوقات الأزمات، كما أنّ قراراته بشأن أسعار الفائدة و«التيسير الكمي» تقيّد جميع الاقتصادات الأخرى. على هذا النحو، حتى مع تنامي قوة الصين في نواحٍ أخرى، فإن المجال النقدي يشكّل مصدر ضعف للصين، وقد امتدت عواقبه إلى أوروبا أيضاً.

مصادر الطاقة
في محاولة لرسم خريطة هذا العالم، السياق التاريخي الأوّل الذي يجب النظر فيه، هو التاريخ الجيوسياسي المتمحور حول الطاقة. يبدأ هذا التاريخ مع صعود الولايات المتحدة الغنية بالنفط ورؤوس الأموال كقوّة جيوسياسية خلال الفترة التي بدأ فيها النفط يحلّ مكان الفحم كمصدر طاقة للقوّة العسكرية. شكّل هذا التحوّل في مصادر الطاقة، منافسة خلال الحرب العالمية الأولى بين القوى الأوروبية للسيطرة على الإمبراطورية العثمانية المتلاشية تماماً. وفي الوقت نفسه أصبحت بريطانيا وفرنسا مدينتين مالياً للولايات المتحدة بسبب الحرب. وكان النفط والمال الأميركيان محوريان أيضاً في نتيجة الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب، أصبحت أوروبا الغربية تعتمد على تحالف أمني هرمي مع الولايات المتحدة، تمثّل في حلف شمال الأطلسي، وعلى واردات النفط من الشرق الأوسط. في الواقع، فإنه منذ السبعينيات، ما كان يمثل في الأساس مشكلة تبعية أوروبية للطاقة الأجنبية، أصبح مشكلة أميركية أيضاً فيما انسحبت بريطانيا من الشرق الأوسط. ما أعقب هذه الصعوبات المتراكمة، وضع دول الناتو على مسارات مختلفة ومثيرة للانقسام في ما يتعلق بالاتحاد السوفياتي وتركيا والشرق الأوسط.
في ما يتعلق بالنفط والغاز، اكتسبت الولايات المتحدة القدرة على المزيد من استقلالية الطاقة أكثر من أي وقت مضى منذ الستينيات، ويكمّل النفوذ المالي الأميركي المتطرّف هذه القوّة. أصبحت هذه القوّة الأميركية المتجدّدة عاملاً من عوامل الخراب الجيوسياسي في الشرق الأوسط. كما أنه جعل اعتماد الصين على النفط الأجنبي محورياً في أسواق النفط، ومنح روسيا منافساً جاداً في تصدير الغاز إلى أوروبا. لقد ضغطت هذه المنافسة الأميركية الروسية على خطوط الصدع التي أعقبت الحرب الباردة حول أوكرانيا وتركيا. في المقابل ونظراً لأن الصين هي أكبر مصدر لانبعاث الكربون في العالم، ولديها مزايا واسعة النطاق في الطاقة المتجددة بالإضافة إلى المعادن التي تعتمد عليها، فإن الطاقة الخضراء هي الآن المصدر الثاني لعدم الاستقرار الجيوسياسي الذي يعمل بالتزامن مع ذلك الناتج عن الوقود الأحفوري.

اضطرابات نقدية ومالية
أما السياق التاريخي الثاني الذي يجب النظر فيه فهو اقتصادي. هذا السياق هو قصة عن الاضطرابات النقدية والمالية، والاضطراب في مجال الطاقة أيضاً. بدأ في أوائل السبعينيات عندما انهار نظام «بريتون وودز» تحت ضغط أسواق المصارف بالدولار في أوروبا، وتضرّر الدول الغربية من أسعار النفط المرتفعة التي قدّمها المنتجون في الشرق الأوسط. في النهاية، أدّت الصعوبات التي تلت ذلك في أوروبا، إلى إنشاء منطقة اليورو. وبحلول أواخر التسعينيات، استقرت البيئة النقدية والنفطية والمالية، وكان اندماج الصين في الاقتصاد العالمي يتعمّق. أدّى ذلك إلى ظهور مجموعة جديدة من الصدمات تزامناً مع عودة مشكلات إمدادات النفط وتسارع المخاطر حول الخدمات المصرفية الدولية بالدولار. في محاولة لإدارة هذه المشكلات الجديدة، أطلق محافظو المصارف المركزية الغربية، سلسلة من الأحداث التي أنتجت العديد من الانهيارات الاقتصادية في عامَي 2007 و2008.
أعادت الاستجابات السياسات النقدية للأزمة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، تشكيل الاقتصاد العالمي مرة أخرى. في كل مكان، أدى تراكم الديون إلى ضمان عدم إمكانية العودة إلى الماضي. أشرف الاحتياطي الفيدرالي على بيئة ائتمانية كان فيها الدين رخيصاً للغاية، وكان الفيدرالي بمثابة «مقرض الملاذ الأخير» للمصارف الكبرى في البلدان الأخرى. أدّت أزمة منطقة اليورو إلى زعزعة استقرار العلاقة بين الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، ما أدّى إلى انهيار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ومع تقدّم العقد الماضي، نمت أهمية الصين بالنسبة للاقتصاد العالمي، وخاصة بالنسبة إلى أوروبا. لكن الصين كانت أيضاً مقيّدة بشكل كبير بسبب القوّة الجديدة للاحتياطي الفيدرالي، بالإضافة إلى ردود الأفعال العنيفة ضد محاولة شي جين بينغ لتحويل الصين إلى قوة تصنيع عظمى في مجالات التقنية العالية. في ظل هذه الضغوط المتنافسة، أصبح الاقتصاد العالمي موقعاً لصراع جيوسياسي أكثر حدة.

النظرة نحو الديموقراطية
السياق التاريخي الأخير الذي يجب النظر فيه يدور حول الديموقراطيات. أصبحت النظرة نحو الديموقراطية التمثيلية في أوروبا وأميركا الشمالية على أنها هيكل مستقرّ ومتفوق للحياة السياسية الجماعية. لكن الديموقراطيات التمثيلية، مثل جميع أشكال الحكومة الأخرى، عرضة لأن تصبح غير متوازنة عبر الزمن، مع تغيّر الظروف الجيوسياسية والاقتصادية التي تأسّست عليها.
نقاط الضعف هذه كانت واضحة منذ بدايات الديموقراطيات التمثيلية، وخاصة في أميركا. وقد تجلّت نقاط الضعف في أوقات الأزمات الاقتصادية حول الديون. بينما، خلال فترة الكساد في الثلاثينيات، سقط عدد من الديموقراطيات الأوروبية، في الولايات المتحدة، أعادت «الصفقة الجديدة» لفرانكلين روزفلت بناء الدولة الديموقراطية باعتبارها مصيراً اقتصادياً مشتركاً. ورغم أن هذا المسعى تعرّض للخطر بسبب السياسات العرقية الأميركية، إلا أنه وضع نموذجاً عاماً لإصلاح الديموقراطيات لإنقاذها. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت حكومات أوروبا الغربية أيضاً افتراض أنه باسم الديموقراطية، يجب أن تتحمّل الدولة مسؤولية الاقتصاد الوطني، ما يسمح لها بتمويل ما تنفقه الدول الديموقراطية من خلال الضرائب بدلاً من الاقتراض الدولي.
بدأت التغيّرات الجيوسياسية والاقتصادية في السبعينيات، في فضح عيوب هذا الشكل من السياسات الديموقراطية. من الناحية المالية، أصبحت الحكومات أكثر اعتماداً على أسواق رأس المال الدولية وأقل اعتماداً على مواطنيها. وسهّلت تدفقات رأس المال الدولية المفتوحة والاتفاقيات التجارية الجديدة، على الشركات الصناعية في الغرب، نقل صناعاتها إلى البلدان التي كانت تكاليف العمالة فيها أقل. وفي المقابل تسببت القطاعات المالية «المعولمة» في تركّز الثروة بشكل أكثر كثافة. ومنذ التسعينيات أصبحت الديموقراطيات في كلّ مكان غير مستجيبة للمطالب الديموقراطية للإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها إعادة الأعمال التي انتقلت إلى الخارج.
مع التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية في السبعينيات أصبحت الحكومات أكثر اعتماداً على أسواق رأس المال الدولية وأقل اعتماداً على مواطنيها


في ظلّ هذه الظروف، أصبحت الديموقراطيات أكثر عرضة لضغوطات الأثرياء، وأصبح إصلاحها صعباً. في حالة أميركا، أدّى ذلك إلى تأجيج نزاعات واسعة حول المواطنة الديموقراطية. في الاتحاد الأوروبي، أدّى نشوء الاتحاد النقدي وانتشار المعاهدات بين الدول إلى إفراغ المخاطر في الانتخابات الوطنية وتقويض الشرعية الديموقراطية للاتحاد الأوروبي. ظهرت اختلافات حادّة بين الديموقراطيات الأوروبية والجمهورية الأميركية، والتي تجلّت في أشكال مختلفة من الاضطراب على مدى العقد الماضي على كل جانب من المحيط الأطلسي. فقط في الولايات المتحدة انهارت بشكل علني موافقة الخاسرين على نتائج الانتخابات، كما حدث مع ترامب. وفقط في فرنسا ضعفت الأحزاب السياسية القديمة لدرجة أنها تكافح من أجل المنافسة في الانتخابات. لا يوجد مكان آخر شهد حركة احتجاجية متواصلة مثل حركة السترات الصفراء التي نزلت إلى الشوارع.

الدافع التاريخي والمستقبلي
من خلال المسار التاريخي، يظهر أن للنفط أهمية خاصة. لأنه يشغّل السفن والطائرات، فهو مصدر الطاقة الذي تقوم عليه القوّة العسكرية. يعتبر النفط أيضاً أساسياً للحياة اليومية. فتعتمد السلسلة الغذائية على النفط، من الأسمدة والمبيدات الحشرية المستخدمة في الزراعة إلى توزيع الإمدادات في الشاحنات عبر البرّ والسفن عبر البحار. البتروكيماويات التي يتمّ الحصول عليها من النفط هي مكوّنات لا غنى عنها، من البلاستيك والمعدات الطبية. يمثل النفط مشكلة بالنسبة لطموحات الطاقة الخضراء، فهو مطلوب لتصنيع الألواح الشمسية والبطاريات والمركبات الكهربائية.
إنّ الآمال بمستقبل طاقة مختلف لا يمكن أن تخفّف من الأهمية الحالية للنفط والغاز. من الواضح تماماً أن النفط والغاز كانا عاملين مهمين في الاضطرابات التي شهدها العقد الماضي. وبنفس الطريقة، فإنّ سياسات العقد الحالي لن تُفهم خارج دافع الطاقة الخضراء. عندما تكون الطاقة هي الأساس المادي لأي حضارة، يجب أن تكون أهمية التغيرات في الطاقة بديهية. حتى الآن في تاريخ البشرية، كانت التنمية الاقتصادية متعلّقة باستخدام المزيد من الطاقة. في الوضع الحالي للطاقة الخضراء، هناك محاولة لتغيير هذه العلاقة الطويلة الأمد من خلال التقنيات الجديدة.

* هذا النص هو جزء من بعض فصول كتاب «اضطراب: أوقات صعبة في القرن الحادي والعشرين»، للكاتبة هيلين طومسون، وهي أكاديمية إنكليزية تُدرّس السياسة في جامعة كامبريدج، وتعمل أستاذاً للاقتصاد السياسي. من مؤلفاتها أيضاً «النفط والأزمة الاقتصادية الغربية»، و«الصين والرهن العقاري في أميركا».