يكمن جوهر المرحلة الراهنة في تحوّل روسيا إلى الشرق. بدأ هذا التحوّل في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكنه صار جدياً في عام 2010 كوسيلة لدخول الأسواق الآسيوية السريعة النمو، بما في ذلك من خلال النموّ المتسارع لمناطق سيبيريا والشرق الروسي الأقصى والتي تضرّرت بشدّة من الانهيار الاقتصادي في التسعينيات. في ذلك الوقت، كان الصعود والهبوط في أزمات الاتحاد الأوروبي - الشريك الاقتصادي السائد لروسيا - آخر ما أُخذ في الحسبان. أيضاً كانت هناك مخاوف تم تهميشها، بشأن الاعتماد المفرط على الغرب وسط تزايد التباعد السياسي المتبادل بين الطرفين، وذلك بسبب استياء الشركاء الغربيين من رفض روسيا اتباع سياساتهم التي كانت تطيعها غالبية الدول الاشتراكية السابقة في وسط وشرق أوروبا.

ولم يتم التحوّل الروسي نحو الشرق بشكل واضح حتى عام 2012. في حينها، بدأت الصحافة الغربية وقادة السياسة الخارجية في معظم الدول الغربية بقصف موسكو على نطاق واسع، إذ بدأ التحوّل يأخذ أبعاداً جيوسياسية. وأخذ التحوّل، أخيراً، البعدين الاقتصادي والجيوسياسي، بعد إعادة دمج شبه جزيرة القرم في روسيا، ما وضع حداً، على الأقل في ذلك الوقت، لتوسيع التحالفات الغربية، مثل حلف شمال الأطلسي، في المناطق التي تعتبرها روسيا حيوية لأمنها القومي. كان هذا التوسع الإضافي، كما اعتقد الكثيرون في موسكو، محفوفاً بحرب كبيرة. لذا، يمكن القول إن روسيا حافظت على السلام مرة أخرى في أوروبا كما فعلت سابقاً عبر هزيمة نابليون وهتلر.
لقد أدّت العقوبات الغربية والسياسات العدائية الصريحة ضدّ روسيا، إلى تسريع تحوّلها نحو الشرق. فبحلول بداية عام 2020، تجاوز حجم تجارة روسيا مع آسيا، حجم التجارة مع أوروبا. علماً أن حصّة أوروبا من التجارة الخارجية الروسية كانت توازي الثلثين في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مقابل الخمس مع آسيا. كما أن شبكة أنابيب الغاز والنفط في آسيا ومصانع الغاز الطبيعي المسال فيها، تتيح إعادة توجيه تدفقات التصدير بين شطري أوراسيا. وعند هذه التطورات فقط، بدأ الاستراتيجيون الروس محاولات تجنّب الاعتماد الأحادي على الأسواق الأوروبية والانتقال إلى الأسواق الآسيوية الصاعدة. وذلك بعدما عزّزت مكانتها في العالم ودخلت أسواق تصدير واستيراد بديلة بسلع عالية الجودة، ولكن أرخص نسبياً، إذ غيّرت روسيا بشكل جذري ميزان التبعية الحالي وتوازن القوى العام في العلاقات مع الغرب، وخاصة أوروبا.
وترافق تحول روسيا نحو الشرق، وتحول الصين غرباً نحو أوراسيا من خلال مبادرة الحزام والطريق، مع تغييرات أكثر أهمية في نظام العلاقات الدولية بأكمله. أي نهاية هيمنة الغرب التي امتدت لخمسمئة عام، بما في ذلك النظام الليبرالي المهيمن في السنوات الـ70 الماضية. بالنسبة إلى روسيا، لم يبدُ الأمر «حراً»، لأنه كان يدفع في اتجاه توحيد السياسات والاقتصادات والإيديولوجيات والثقافات. كما أنه لم يكن نظاماً، نظراً إلى عشرات الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، والتي أودت بحياة الملايين من البشر. في العقود الأخيرة وحدها، ارتكب الغرب أعمالاً عدوانية ضدّ فلول يوغوسلافيا والعراق وليبيا. كانت هناك أيضاً العشرات من الانقلابات، التي أطلق عليها أخيراً الثورات الملونة، والتي غالباً ما أغرقت دولاً ومناطق بأكملها وشعوبها في المعاناة والفقر. كما دعم الغرب الانقلاب في أوكرانيا في عام 2014، والذي حوّل هذا البلد، الذي كان سابقاً في شبه متطوّر وفقاً للمعايير الأوروبية، إلى أفقر دولة في المنطقة من حيث دخل الفرد، تسير بثبات نحو تحوّلها إلى دولة فاشلة.
كانت الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية للغرب، وقبل ذلك لأوروبا، والتي استمرّت لخمسة قرون، متجذّرة بعمق من خلال التفوق العسكري على بقية العالم، الذي اكتسبته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ليس فقط الإمبراطوريات البرتغالية والبريطانية والإسبانية والفرنسية، ولكن أيضاً الإمبراطورية الروسية ظهرت إلى الوجود بسبب التفوّق في التسلّح والتنظيم عسكرياً. سمح لها ذلك بالاستيلاء على الناتج القومي الإجمالي العالمي وتقوية دولها. في البداية، نهبت مستعمراتها، ولكن في النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح نظام الهيمنة أكثر تعقيداً وعمل من خلال المؤسّسات الاقتصادية الغربية، عبر نظام بريتون وودز. ومع ذلك، ظلّ التفوق العسكري أساس الهيمنة. وسعياً من أجل البقاء، أنتج الاتحاد السوفياتي، ثم الصين، أسلحة نووية، وبدأت أسس الهيمنة بالانهيار. بدأ الغرب يخسر الحروب، وأصبح تصعيد القوّة أكثر صعوبة. لقد أصبح العالم اللاغربي أكثر جرأة. يكفي أن نتذكر الثورات المناهضة للاستعمار، أو حركة عدم الانحياز، أو حظر النفط العربي في السبعينيات. ثم لثانية تاريخية، بدا أن الغرب استعاد تفوقه. انهار الاتحاد السوفياتي، وانغمست روسيا في أزمة عميقة، وفقدت مؤقّتاً قدرتها على اتباع سياسة ردع فعّالة.
ولكن بعد قصف يوغوسلافيا، وانفصال الولايات المتحدة عن معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، وغزو العراق، أطلقت روسيا سرّاً دورة إعادة تسليح جديدة لإنشاء صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، ورؤوس حربية انزلاقية، وما إلى ذلك. هذه الأسلحة، التي يجري نشرها الآن، على ما يبدو حرمت الغرب من تفوقه العسكري الكامل. في الوقت نفسه، إما بسبب الرقابة أو ضيق الأفق الإيديولوجي، سمح الغرب للصين بتحقيق قفزة إلى الأمام. قبل ذلك، كان الغرب قد رفض محاولة روسيا أن تصبح جزءاً منه، لأنها كانت تريد ذلك مع الاحتفاظ باستقلاليتها، ما دفعها نحو العالم الآخر. الآن، بعد أن أنشأت الصين وروسيا تحالفاً فعلياً، فقد غيّرتا في ميزان القوى في العالم.
الكثير من المتغيرات ستحدّد شكل العالم الجديد. قد نشهد نشوء شراكة أوراسيا الكبرى (وُلد هذا المفهوم في روسيا وبدعم من الصين، ومنذ البداية شمل أوروبا أو جزءاً منها جغرافياً). أو قد تصبح أوراسيا مركز الاقتصاد والسياسة، وفي نهاية المطاف الثقافة، العالميين، وليس أوروبا كما كان الحال خلال القرون الخمسة الماضية، ولا المحيط الأطلسي، كما كان الحال على مدى 65-70 سنة الماضية.
أولاً وقبل كل شيء، سوف يعتمد الأمر على ما إذا كانت الصين قادرة على الابتعاد عن تقليدها القديم المتمثّل بالمملكة الوسطى، أي كونها قوة عظمى تحيط نفسها بالتابعين. لن تكون قادرة على فعل ذلك. فمن حدودها الغربية، ستواجه مقاومة حضارات كبيرة ذات تاريخ يمتد لألف عام وموارد مهمة. هذا الأمر يحدث اليوم مع الهند، ولكن ستكون هناك أيضاً إيران وتركيا، وبالطبع روسيا مع سعيها من أجل السيادة وقدرتها المثبتة على حمايتها.
إذا اختارت الصين مبدأ «الأول بين المتساوين»، وهو الأرجح، فسيتم إنشاء شراكة، مع اتخاذ روسيا الموقف الملائم كموازن شمال أوراسيا وموحّد وضامن ثقافي وعسكري-استراتيجي.
يتعين على أوروبا والدول الأوروبية أن تقرر ما إذا كانت تريد القيام بدور نشط في بناء شراكة جديدة أم أنها ستُبنى من دونها، ثم ضدها جزئياً، دون مراعاة مصالحها.
يمكن تأخير تحرّك أوروبا نحو أوراسيا الكبرى بشكل مصطنع عن طريق إثارة نوع من الأزمات مثل أزمة الصواريخ في السبعينيات التي أوقفت مسيرة أوروبا الكبرى نحو الانفراج وحرمت أوروبا الغربية من فرصة اكتساب قوة الوكالة.
إذا ظل الأوروبيون يأملون في إحياء الأوقات «المريحة» الماضية والبقاء في طي النسيان كما فعلوا خلال السنوات العشر الماضية، فإن دول الاتحاد الأوروبي ستدخل أوراسيا الكبرى واحدة تلو الأخرى أو في مجموعات. يمكن بالفعل رؤية الحدود الجغرافيّة المستقبلية لأوراسيا الكبرى. سوف يمر على طول الحدود الفرنسية الألمانية أو يشمل ألمانيا إذا قررت الانضمام أخيراً.
سيكون الخيار الأفضل لأوروبا هو القيام بدور نشط في بناء شراكة جديدة تحصل بموجبها على هدف جديد وشرعي


سيكون الخيار الأفضل لأوروبا في الاتحاد الأوروبي هو القيام بدور نشط في بناء شراكة جديدة. في هذه الحالة، سيحصل الاتحاد الأوروبي على هدف جديد وشرعي. في الوقت نفسه، لا يعني هذا السيناريو بالطبع فك الارتباط مع الولايات المتحدة. سيكون ذلك غير منطقي كلياً. ولكن من أجل اختيار هذا السيناريو، سيتعين على أوروبا التوقف عن الانزلاق أكثر في الأزمة الحضارية والتخلي عن محاولات الاتحاد ضدّ الأعداء الوهميين، مثل روسيا أو الصين. ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان بإمكان الأوروبيين القيام بذلك الآن.
لكن بالنسبة إلى روسيا، فإن أفضل سيناريو يتمثل في علاقة وديّة مع أوروبا بأسواقها وتأثيرها الثقافي، يوازن قوة الصين المتنامية في منطقة أوراسيا الكبرى.
أعتقد أن هذا السيناريو سيكون منقذاً لأوروبا أيضاً. لكنني لن أنصح بأي شيء جيراننا الأوروبيين، الذين كانوا أصدقاءنا منذ وقت ليس ببعيد، ونأمل أن يصبحوا جيراننا وشركاءنا في أوراسيا الكبرى في المستقبل. يجب أن يتخذ الأوروبيون قراراتهم الخاصة وأن يتحملوا مسؤولية عواقبها.

* هذا المقال هو عبارة عن تمهيد لكتاب «أوروبا كشبه الجزيرة الغربية لأوراسيا الكبرى» للكاتب غلين ديزن، كتبه سيرغي كاراغانوف وهو الرئيس الفخري لهيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية وعميد كلية الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية في الجامعة الوطنية للبحوث