عندما كنا صغاراً، كنا نسمع أن «السرفيس» هو اختراع سوري. عندما كبرنا، اكتشفنا أن كذبة السرفيس واحدة من كذبات كثيرة صدّقناها كما صدّقنا أمهاتنا عندما أخبرننا بأن عملية الولادة تتم من الخاصرة. عرفنا لاحقاً أن السرفيس صناعة ألمانية أنتجته شركة «فولكس فاغن» أوائل الخمسينيات وتوقفت عن إنتاجه في عام 1967، في حين استمرت البرازيل بتصنيعه في «سان باولو» تحت مظلة «فولكس فاغن» الأم. تربط عواصم أوروبا اليوم شبكة مترو عملاقة، أما عواصم المدن العربية ومدنها، ومنها دمشق، فتربطها شبكة «ميكروباصات» بيضاء صغيرة ومعها يرتبط الناس بأحاديث وعلاقات وخناقات وتراجيديات وروايات لا يمكن لأي «مترو» أن يتخطاها مهما بلغت دقة الزمن الذي يمشي عليه قطاره السريع. في أوروبا، كل بضع دقائق يصل قطار إلى محطته. في دمشق، للزمن حسابات أخرى يرويها «خط الدوار الشمالي» الذي يبدأ رحلته من أقصى شرق دمشق في «كاراج» العباسيين إلى أقصى غربها في «كاراج» السومرية قاطعاً مسافة 20 كلم، وخط «مزة – جبل»، الذي يتمنى ركابه لو كان خطهم «مزة – جبل – فيلات»، وخط «جرمانا – باب توما» الذي لا يتعب ركّابه من السهر في باب توما وباب شرقي.بعد الأزمة، تغيّرت أجرة «الميكروباصات» وحكايا الناس وأصوات الباعة والأغاني التي تبثها عربات الشاي وحتى أحاديث الراديو تغيّرت. ما قبل الحرب، كنا نسمع سارية السواس، وهي تطلب منا أن نسمعها، فتقول لنا «بس اسمع مني يلي مجنني». وكانت البنت شاغلةً لبائعي الشاي من وراء عرباتهم، كما كان لها حضور خجول ما بين مثقفين يسمعونها سرّاً ويشتمونها في العلن. اليوم، وبعدما تنكرت ثقافات الطوائف لنفسها في الخطاب السياسي، بدأت تعلن عن نفسها بشكل صريح في مزاج الأغنية باعتبارها البيان السياسي الخفي الذي لا يسع محكمة أن تستدرجه إلى تحت قوسها. فهذا سائق لميكروباص «جرمانا ــــ كراج الست» يرفع الصوت عالياً: «لما المصايب تجتمع بنده علي... يا علي». على مقلب آخر، نسمع سائقاً لـ«ميكروباص» آخر يرفع الصوت عالياً، والشارة تقول إنه راديو «الريّان» الذي يبثّ تراث منطقة السويداء ليعلن مع موجاته هوية خارج التعريف الضروري للهوية السورية.
في «كاراج» العباسيين، شرق دمشق، تهرول دفعة من الناس راكضة خلف «ميكروباص» وصل لتوّه من مزة – جبل. دفعة ثانية تستعد لتصيّد «الميكرو» المقبل. تليها دفعة أخرى، وهكذا دواليك، تتوالد الدفعات في شكل خط إنتاج آلي (تفريغ ــــ تعبئة – نقل) مع الأدوات اللازمة لهذا الخط من «تدفيش» وتدافع وشتائم، وعبارات من نوع «احجزولي، وطَوْلوا بالكن»، وسائق يصرخ «خلّوا الناس تنزل»، وسائق يصيح «عالصدر... عبيلي الصدر يا عيني».
يتمنى الواقفون في «الكاراجات» لو أن يومهم الألف هذا يكون الأخير في رحلة معاناتهم مع زحمة «السرفيس». هذه العربة الصغيرة البيضاء التي تتسع في التعريف لـ 14 راكباً، لكنها تحوّلت في سوريا إلى آلة للحشو تتسع لـ24 راكباً، أما كيف تتم عملية التعبئة هذه، فمن رأى ليس كمن سمع، والوصف لا يُغني عن المشاهدة بالعين المجردة المفتوحة على الوجوه المتقاربة والأجساد المتلاصقة.
يُستخدم «الميكروباص» عادةً لنقل الركاب بالأجرة. وللأجرة في دمشق قصتها التي لا تشبه أبداً قصة «حمدة» أو قصة «ليلى والذئب». هي قصة «الـخمسين ليرة»، الورقة التي لو أتيح لها اليوم أن تخرج من تداول الأيدي والألسن، لخرجت وأعلنت ثورتها بتلك العبارة التي باتت أيقونة لـ«ربيع» الشعوب العربية: «لقد هرمنا». تجاوزت أزمة الخمسين سائقي «الميكروباصات» إلى أصحاب المحال التجارية الذين حققوا مستوىً جيداً من الطرافة في التعبير عن افتقاد الورقة العجوز، فهذا صاحب إحدى البقاليات في القيمرية في الشام القديمة كتب على باب محله من الخارج «إذا ما معك خمسين لا تشتري... ما في فراطة»، ألحقها بعبارة أخرى على برّاده من الداخل: «إذا ما في خمسين لا تنحرج... اشتري من عند غيرنا».
في مرور عابر، نلتقط من بائع السكاكر سؤالاً: من أين سنبدأ إعادة الترتيب؟ يجيبه بائع اليانصيب: «ربما يجب أن نبدأ من فروة رأسك»، يضحك بصوت عالٍ وهو يهرول. يتوفر الحزن هنا في «كاراجات» العباسيين بكثرة، تعثر عليه في زحمة التدافع لنيل مقعد في «سرفيس» وليس لنيل مقعد في جامعة، في شكل الأحذية التي تحدد وضع صاحبها الاقتصادي. تعثر عليه ممدداً للبيع على البسطات، في وجوه الناس، في حبات السكاكر و«فستق العبيد» ووحدات التعبئة، على حيطان مشفى ابن رشد للأمراض النفسية... يمكن أن تراه حتى في البوالين الملونة، ويمكن أن تلمسه في أكياس الخيش التي تحولت إلى مِخَدّة لرجل أسند رأسه إليها بعدما فقد رأس زوجته وحضنها.
على الطريق، وقبل الوصول إلى مكان وقوف شرطي المرور، يتوقف السائق لثوانٍ، يُنزِل لوحة «الميكرو» التي كتب عليها «مزة جبل – برامكة» ويستبدلها بلوحة «مزة جبل – كراجات»، في نوع من الاحتيال على الشرطي. يصل إلى الحاجز الذي كان موجوداً سابقاً، يدخل على الخط العسكري، يلتفت السائق إلى اليسار، يرفع يده ملقياً التحية على خيال عسكري كان يقف هنا ولم يعد موجوداً الآن، «كيفك يا حبيب... عا راسي والله»، يتابع رحلته من دون أن تتغير حتى تعابير وجوه الركاب من تصرّفه هذا.
الباحثون عن اللقمة، العيش، الأمان، عن مفقود، عن مخطوف، عن جثمان، عن حلم، عن أمل، الباحثون عن مُستمع يصرخون في وجهه، هؤلاء هم ركاب «ميكروباصات» العاصمة المتراصّون بقوة الواقع، الواقع الذي وحّدته سارية السواس وفرّقته السياسة.