في الطريق إلى العمل، وأمام باب أحد مخاتير دمشق القديمة، أتعثر بعشرات الأشخاص، أعرف معظمهم، وقد انتظموا برفقةَ أسطوانات غازهم في طابور طويل. يتفنّن عدد منهم في ابتكار طرق لحماية أسطواناتهم من الضياع: واحدٌ وضع عليها شريطة حمراء، وآخر كتب عليها اسمه ورقم هاتفه، وثالث ربطها بطرف سلسلة معدنيّة، ووضع الطرف الآخر في يده. كلّهم ينتظر قدوم «سيارة الفرج» حاملةً الفرح لهؤلاء الملتحفين البرد، وعيونهم معلّقة في آخر الشارع، وصدورهم تطرق بإيقاع متوازٍ، والهواء يخرج من أفواههم في شكل آهات مكدّسة.أحاول أن أضع رأسي بين قدمي، أسيرُ متجاهلاً وجوه الواقفين، وهم بدورهم يُطرقون، ربّما تحاشياً لنظرات شفقة تقع عليهم، مع أنّ حال الجميع متشابهة: الناظر والمنظور «في الهوا سوا».
على بُعد أمتار قليلة، في منطقة الشاغور، يقفُ العشرات أمام كوّة بانتظار حضور الموظف لاستصدار بطاقة «ذكيّة». معظمهم سائقون، تجاورهم سياراتهم الصفراء، وبعضهم يفضّل الانتظار داخل السيارة هرباً من البرد القارس. يتجمّع كل ثلاثة أو أربعة، يشكّلون حلقة نميمة وسُباب على كلّ ما اضطرّهم إلى هذه الوقفة. تعلو الأصوات بين حين وآخر في شجار على ترتيب الأسماء المسجلة في ورقة بيضاء مهترئه، أكلها المطر وجفّفتها الرياح.
أواصل السير بخطى أسرع. أتنفّس الصعداء ظنّاً مني بأنّني نلت نصيبي من مشاهد الطوابير لهذا اليوم. بعد قليل، يطالعني طابور أطول من سابقَيه، يضمّ أكثر من مئتي شابّ أمام باب شعبة التجنيد، وهم في انتظار اقتيادهم أو سَوقهم. حال هؤلاء مختلفة: الصمت سيد الموقف، وقد جلس معظمهم القرفصاء. لا شيء يتحرّك في المشهد سوى بعض الأوشحة الصوفية فوق بعض الرؤوس، تتمايل مع كلّ هبّة ريح، في انتظار أن ينادي أحدٌ على أسمائهم ليبدأوا مرحلة جديدة من الانتظار. معظم الواقفين كانوا قد استعدّوا ــــ جسدياً ونفسياً ــــ لساعات الانتظار، أحضروا معهم زوّادتهم من الطعام، وأتمّوا شحن بطاريات هواتفهم الخلوية، وفكّروا مليّاً في ما سيواجههم في اليوم التالي. وعلى الأرجح زوّدوا أبناءهم وإخوتهم يوصايا كثيرة، تحسّباً لغياب قد يطول.
يتكرّر المشهد في كلّ مكان. أينما اتّجهت طالعتك الطوابير على حدود المدينة المشقّقة. ويستمرّ الانتظار، ويتكرّر عدّ الأيام والساعات، وحساب الإجازات والمناوبات، والمصاريف، والنفقات إلخ إلخ إلخ.
انتظار للتسريح، أو التأجيل، أو جرّة الغاز.
انتظار أمام الكوّات... وفي محطات الوقود، أو لإنجاز المعاملات في الدوائر.
انتظار العودة، أو السفر، أو الإفراج، أو انتهاء المحكوميّة.
انتظار خبر وفاة أو حياة، انتظار عودة الكهرباء، وأول الشهر، وساعة المباراة، وفوز المنتخب، وخسارة جديدة.
انتظار تسجيل الجامعة، والتخرّج، والحصول على وظيفة، والزواج والولد.
انتظار حبّ صادق، وامتلاء بطارية الهاتف.
ومع هذا الانتظار، تسرق مواقع التواصل الاجتماعي من عينيّ تحدّي العشر سنوات «#10YearChallenge».
لا أجدُ شيئاً تغيّر في حالنا، في ترقّبنا وانتظاراتنا.
قالوا عن مصر يوماً «بلد الطوابير». ها هي سوريا وقد باتت منذ سنوات «بلد الانتظار» بامتياز.