وإذ تمضي إلى المنطقة التي تنتمي إليها جينياً لتستكشف التغييرات التي تثقل كاهل أهلها، لا بدّ من تفقد أشجار الليمون وذكريات الطفولة حولها، ولا داعيَ للتفاجؤ بالكتل الاسمنتية تظلّل كل ما كان. ستتذكر نفسك وأنت تدخل محل الخضر والفواكه في العاصمة، فترفض شراء البرتقال تحديداً، بعنجهية مُلاك مَزارع الحمضيات من أبناء قريتك.

عنجهية تتضافر جهود الطبيعة والبشر على كسرها. «شراؤه غير لائق في أعرافنا. هذا يشي بأننا لسنا مُلّاكاً في أرضنا»، تقول لأحد الأصدقاء. لكن أشجار البرتقال ما عادت نفسها. ربما عليك استبدال كبريائك المتوارث حيالها، بآخرَ مصطنعٍ يخصّ أشجار الكيوي مثلاً، بعدما راحت تحلّ محلها في بعض المساحات. هل تلوم قريبك المُزارع الذي لجأ إلى زراعة أنواع أُخرى في لحظة التخلّي القاهرة تلك؟! هل تنكر على أهلك حقهم في تغيير ملامح مزارعهم الخضراء المزينة بالدوائر البرتقالية اللامعة، واستبدالها بأُخرى غريبة عن المنطقة، بل عن البلاد؟! أنت تقدّر قيمة السعي إلى كسب الرزق، فمنهم من لا يُتقن صنعة أُخرى. والأجدى هُنا أن تواسي مُصاب فلاح اقتلَع مع الأشجار جذوره من تربة قريته الحمراء العالق عليها رفات الأجداد. حتى هو لن يكون نفسه، حين يفكر بتبديل مهنته الأزلية وتسليم الأرض إلى متعهد ليشرع بأعمال البناء، فيحيلها إلى محاضر سكنية للبيع. تُفكّر في مكابرتك، وأصولُك تعود إلى قرية تقف على هذا الشاطئ منذ أقدم العصور، لتحدّها أوغاريت الفينيقية الأثرية من جهة، والمنشآت السياحية التي افتتحتها الشركات الفرنسية في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته من جهة أُخرى. فيما مزارات الأولياء التي يمضي إليها المؤمنون في المناسبات الدينية، لن تكفي لجبر خواطر من ضرب الصقيع أرضهم. تتأمّل صيادي الأسماك على صخور «رأس ابن هانئ» في مواجهة مزارع الليمون الباقية على المقلب الآخر، وترى في تلك التناقضات نموذجاً مُصغّراً عن البلاد كلها. لا حلول في جعبة أحد، ولا «خطط استراتيجية» أو تعويضاً لائقاً، ولا يبدو أن البرتقال سيظلّ جزءاً من ناتج البلاد الزراعي. قليل من الوقت ونشتريه مستورداً، بلا أي عنجهية، أسوة بالموز الذي قضى ــــ منذ بدء استيراده قبل عقود ــــ على أحلام فلاحين سابقين. هل من الضروري أن تنجب كل ليمونة طفلاً؟! عذراً نزار قباني... فليس مُحالاً أن ينتهي الليمونُ!!