بهمّة الشباب، يفتح الحاج لبيب وجيه بيضون باب منزله في حي «العدوي» بدمشق، ويستقبلنا على مدار أربع ساعات، يحكي فيها بعضاً من مسير حياته المستمر منذ أكثر من ثمانين عاماً. تختلطُ الأمور على من يجالسه، ففروة رأسه البيضاء تماماً تشي بعمر طويل، لكن حديثه ومنطقه وتذكّره أدق التفاصيل يجعلك توقن حقاً أن «الشباب شباب الروح».منزل بيضون، عبارة عن مكتبة كبيرة، في كلّ غرفة أقيمت رفوف تكدّست فوقها آلاف الكتب والدفاتر، وخصص غرفة للكتابة. تبدو كثرة الأوراق مفهومة، حين يكشف صاحبها أنه ابن وجيه بيضون، أول من أدخل مطبعة «الروتوغرافور» إلى سوريا في أربعينيات القرن الماضي، بعد جلبها من مصر، لتكون أول آلة للطبع على النحاس في البلد، وعرفت لاحقاً بمطبعة «ابن زيدون» الشهيرة. يقول الدكتور لبيب، وله من الأولاد ثلاثة صفوان وغزوان وفراس: «أذكر كيف بدأ والدي من عامل صغير في مطبعة، ثم صار صاحب مطبعة تطبع العملة الورقية وصور فارس بيك الخوري. طبعنا أكثر من 100 مليون طابع للحكومة السورية في تلك السنين». يتحدث أبو صفوان، عن مؤلفاته التي قاربت الثمانين: بعضها في التاريخ، وبعضها في الشعر واللغة العربية، وقسمٌ منها في القصص والتوثيق. كان أول مؤلفاته كتاباً متخصّصاً بعنوان «الفيزياء النووية وفيزياء المفاعلات»، وتمت ترجمته إلى لغات عدّة. نسأل عن شهادته الجامعية فيقول: «دكتوراه فيزياء نووية» حازها من فرنسا عام 1998. لا نبالغ إذا أسميناه «ابن حيان» سوريا في العصر الحديث، فهو المؤرخ والشاعر والفيزيائي والمدرّس في جامعة دمشق. وُلد بيضون في شارع الأمين بدمشق القديمة عام 1938، وترعرع في عائلة فقيرة وبسيطة، اضطرته ظروفها المادية للانتقال بين عدة مدارس. نشأ في مطبعة والده في منطقة «القنوات»، بعد أن اشترى الأب منزل السياسي والشاعر السوري، فخري البارودي، وحوّلها إلى مطبعة كبيرة. لوحظ خلال نشأته حبّه للآلات والميكانيك والفيزياء، فاختار دراسة الفيزياء في «جامعة دمشق». تخرج بتفوّق، ونقصته علامات قليلة عن المركز الأول، لتبدأ رحلته في التدريس عام 1961، ويتنقل بين مدارس حلب وإدلب وحمص.
خلال فترة تدريسه نال شهادة «دبلوم» في التربية، ثم عيّن مدرّساً في جامعة دمشق عام 1965، واستمرّ كذلك لمدة ثلاث وثلاثين سنة، مدرّساً في كليات الطب والصيدلة والعلوم الجيولوجية والطبيعية، وتتلمذ على يديه آلاف الطلاب. حصل بيضون عام 1976 على منحة «كوبرنيكوس» البولونية لدراسة «الماجستير» باللغة الإنكليزية، وحاز الدرجة خلال وقت قياسي (عام واحد)، ثم تمكّن من الحصول على قبول سريع من جامعة بريطانية متخصّصة بالفيزياء النووية لنيل درجة «دكتوراه»، لكنّه نالها لاحقاً من جامعة فرنسية، وبدرجة «إبداع». كان عام 1998 نهاية رحلته التدريسية والتعليمية مع بلوغه سن التقاعد، ليمنح وقتاً أكبر للتأليف والكتابة.
إلى جانب العمل العلميّ، تابع الرجل ما بدأه والده، الذي أسّس أول جمعية سورية تُعنى بالشؤون الطبية، وسمّاها «جمعية إغاثة المرضى الفقراء» عام 1944. كانت تلك الجمعية دون سواها، لا تقدم أي مساعدات مادية أو غذائية، بل حصرت خدماتها في الأدوية والمعاينات الطبية.
يسمي أبو صفوان ما شهدته سوريا بـ«النكسة». يقول: «مرّ على دمشق خلال التاريخ كثير من المحن، وكانت دائماً تخرج بشكل أقوى». يطول حديث الذكريات، فقد عايش لبيب عصر ما قبل الكهرباء، وما بعدها، وما قبل السيارات، وما بعدها، ووصل إلى يومنا هذا حيث «يستبيح الكومبيوتر كلّ شيء، وتخترق هواتفنا المحمولة أوقات خلوتنا وخصوصيتنا». يشتاقُ الرجل للأيام الخوالي، ويؤكد أنها كانت «مليئة بالبركة والبساطة». وحين نسأله ماذا تغيّر في دمشق يقول: «دمشق تغيّرت قليلاً، لكن ما تغيّر كثيراً هو أهل الشام».