قبل سنوات، لم يكن الزواج وارداً في بال الطفلة رهام المنحدرة من إحدى قرى ريف إدلب، ولا حتى حاضراً في خيارات عائلتها. كان حصول الأمر مستبعداً قبل بلوغها العشرين على الأقل، لكن الظرف سرعان ما تغير كلياً بعد أن قذفتها الحرب بعيداً عن الطفولة، لتتكسر أحلام دراستها في عام 2013 على عتبة الصف التاسع (البروفيه)، ولا سيما أن التقدم إلى الامتحانات كان يعني حتمية السفر من الريف إلى مركز المحافظة، في ظل اشتداد المعارك، وانتشار مظاهر الخطف على الطرقات. أمام تردي الوضع الأمني، واقتراب النيران من بيتها، وجدت الصغيرة نفسها تقطع رحلة طويلةً بصحبة عائلتها، انتهت في أحد مخيمات «البقاع» في لبنان. لم يمضِ وقت طويل، حتى تزوجت رهام وهي ابنة 15 ربيعاً فحسب، وبمهر مقدمه مليونا ليرة لبنانية (نحو 1300 دولار)، ومؤخره ثلاثة ملايين (2000 دولار). تقصّ الصبية لـ«الأخبار» فصولاً من حكايتها: «الفقر دفعني نحو الزواج. لم أعد أحتمل العمل بالسخرة في الأراضي الزراعية، من السادسة صباحاً حتى السادسة مساءً. كذلك إن ضغوط الأهل لا ترحم، وباب إكمال العلم مغلق في بلاد ليست بلادنا». لا تُعَدّ رهام استثناءً، بل إن الزواج المبكر بات أشبه بقاعدة في محيطها. تؤكد الصبيّة أن ما لا يقل عن 50 فتاة قاصراً تعرفهن في مخيمها الصغير، قد تزوجن قبل سن السابعة عشرة، في خلال الأعوام الثلاثة الماضية. اليوم، باتت الطفلة رهام، أمّاً للرضيعة ليلاس ذات الأشهر الأربعة. تقول: «من يصدق أن أحمل بين يديّ طفلة بعد أن كنت أحمل دمية قبل سنوات؟ إنها أعباء ومشقة كبيرة، ليت الزمان يعود بي إلى طفولتي لأفعل كل الأشياء التي حُرِمتُها».
يحصل معظم حالات «زواج القاصرات» وفق «عقود عرفيّة»


«أريد الانتحار»
كانت نور، (14 عاماً) ضحية أخرى لجريمة مماثلة. في عام 2016، التقاها ناشطون اجتماعيون مصادفة في أحد مراكز الدعم التابعة لمنظمة دولية في البقاع. كانت الطفلة تقف على حافة أحد شبابيك الطبقة الثالثة من المبنى. طلب منها الناشطون ألّا تقف هناك خوفاً عليها، وسرعان ما أجابت: «دعوني أسقط وأموت، لماذا أعيش وابني بعيد عني؟». تكشفت فصول القصة أمام الناشطين، كانت الطفلة جزءاً من صفقة «زواج بالمقايضة»، إذ تزوجت شاباً، مقابل أن يتزوج أخوها أخت الشاب (وهي قاصر أيضاً). بعد فترة وجيزة من الزواج، طلق أخوها زوجته نتيجة خلافات، فردّ زوجها بتطليقها، وحرمها طفلها، حين اختطفه عنوة لأن «الطفل من حق الأب» وفقاً للأعراف السائدة في محيطه الاجتماعي. يرى أحمد (متطوع في منظمة UNHCR، ويعمل في مخيمات شمال لبنان)، أن «تراجع التعليم أسهم في استفحال الظاهرة في الشمال». يقول: «الأب، ولا سيما العاطل من العمل، لن يرسل بناته إلى المدارس نتيجة ارتفاع التكاليف، وغياب وسائط النقل، خاصة بعد أن خفضت المنظمات الدولية مساعداتها للاجئين». ويضيف: «يؤكد البعض أنهم يمتنعون عن إرسال بناتهم إلى المدارس خوفاً من التحرش، خاصة أن دوام السوريين في المدارس الابتدائية والإعدادية يكون ضمن الفترة المسائية». يوضح الناشط أن «كثيراً من اللاجئين يسكنون في مخيمات مجاورة للأراضي الزراعية التي يعملون فيها، بعيداً عن مراكز تجمّع المدارس. ولهذا تتجه الفتيات إلى العمل في الزراعة، بانتظار العرسان». وضمن سياق حرمان التعلّم، يذكر الشاب حادثة لافتة وقعت في «مخيم المنية» (طرابلس) في شباط الماضي. يقول: «أقدمت فتاة عمرها 14 عاماً على الانتحار شنقاً، بعد حرمانها التعلّم ودورات المهارات الاجتماعية التي تقدمها المنظمات الإنسانية».


أرقام صاعدة
لا يُعَدّ «زواج القاصرات» حدثاً جديداً على الساحة السورية، لكن لعنة الحرب ضاعفت النسبة إلى أن تجاوزت 13% بعد أن كانت 3%، بحسب تصريح للقاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي، في بداية العام الحالي. وتجري معظم تلك الحالات وفق «عقود عرفيّة». لا يمكن الركون إلى دقة النسب المذكورة، فهي أقرب إلى تقديرات، وقد تكون أقل بكثير مما ستكشفه الأيام بعد أن تضع الحرب أوزارها. فيما تبدو النسب أكثر تضخماً في مخيمات السوريين داخل الأراضي اللبنانية. عملت الناشطة الاجتماعية رودة عبد الكافي، مع منظمات دولية، في مخيمات البقاع بدءاً من 2016. تقول لـ«الأخبار» إن «أسباب ازدياد زواج القاصرات السوريات في المخيمات اللبنانية، كما لمسناها على أرض الواقع، كثيرة. منها الخوف على الفتاة من أي تحرش، وهو مفهوم خاطئ عند أغلب الأهالي». وتضيف: «أيضاً تؤدي الظروف الاقتصادية دوراً مهماً، إذ يعتقد الأهل أن زواج ابنتهم يعني حصولها على مسكن أفضل من الخيمة. وفي حالات موت الأب أو غيابه عن الأسرة، تجد الأم نفسها مجبرة على تزويج بناتها لتخفيف الأعباء عن كاهلها». تعدد عبد الكافي بعض منعكسات زواج القاصرات، التي عاينتها على الأرض. «النزف في ليلة الدخلة، والحمل المبكر، والطلاق بعد أشهر أو حتى أسابيع. بالإضافة إلى تعرض الفتاة للخطر أثناء الولادة، توفيت قاصر منذ مدة قصيرة أثناء وضع مولودها». وتضيف: «شهدت على زواج للقاصر ذاتها لأكثر من مرة، قبل أن تُتمّ عامها الثامن عشر»! تؤكد حياة مرشاد، مسؤولة الحملات والتواصل في «التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني» لـ«الأخبار» تفشي الظاهرة بنحو كبير. تقول: «قدرت منظمة UNICEF نسبة زواج القاصرات السوريات في المخيمات اللبنانية بـ 27% خلال عامي 2017-2018، فيما تشير أرقام هذا العام إلى نسبة 41%». وتضيف: «ما نعمل على فعله، هو إيجاد إطار قانوني يحدد الزواج في لبنان بـ 18 سنة، على أن ينطبق القانون على كل الأشخاص المقيمين داخل الأراضي اللبنانية، بمن فيهم السوريات. إضافة إلى أهمية التوعية للنساء والفتيات في المخيمات، لمحاولة حثهن على محاربة الظاهرة وتفاديها».