ليس طقس دمشق الخريفي الضائع بين حر النهار وبرد الليل غريباً عن المناخ الصحراوي. فالعاصمة التي كانت تحتفي في خمسينيات القرن الماضي بـ 30 مليون شجرة فواكه تغص بها الغوطة، اختلف طقسها بفعل تراجع غطائها الأخضر. غيّرت سنوات الحرب أوضاع «سلة دمشق الغذائية»، قضت على شجرها وحجرها، وقلبت حياة أبنائها، يتساوى في ذلك الباقون فيها، والعائدون إليها، والمهجرون عنها. ويُعتقد أن الغوطة الشرقية تحتاج الى ما يقارب 10 سنوات، لتتمكن من استعادة غطائها الأخضر، فيما تحتاج أشجارها المزروعة هذا العام الى 5 سنوات لتعطي أول موسم خير لها.للعبور إلى الغوطة الشرقية والوقوف على أوضاع قاطنيها، بعد عام ونصف عام من عودتها إلى سيطرة الدولة السورية، لا بد من المرور عبر طريق عين ترما، المجاورة لحي جوبر الدمشقي المنكوب. المباني مهدمة بشدّة على طول الطريق إلى البلدة. يمكن العابرين استذكار أيام «أسواق الخير»، التي جذبت الدمشقيين إلى محالها التجارية المتنوّعة بضائعها، وعادت لتجذب المسلحين الذين تمركزوا فيها خلال الحرب. حتى المباني الجديدة في عين ترما تعرضت لتخريب لا يتطلب ترميماً فقط، بل إن معظمها يحتاج الى إعادة بناء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بلدة جسرين التي تعرضت لدمار كبير، فيما يختلف الأمر بالنسبة إلى بلدات كفربطنا وسقبا وحزة، إذ نالت هذه البلدات دماراً أقل. يعزو بعض الأهالي الأمر إلى كونها «حفلت بالغرباء عنها خلال سنوات ما قبل الحرب، ما دعاهم إلى الخروج منها سريعاً مع اندلاع المعارك واللجوء إلى مناطقهم الأصلية». ولا يمكن تجاهل بعض «الإيجابيات»، مثل عودة محال المفروشات إلى العمل، ولا سيما في سقبا، بما يعيد إلى الذاكرة زمان عزّ صناعة المفروشات في المنطقة. أما كفربطنا، فتحاول العودة إلى زمانها القديم، عبر تزايد محالها التجارية والازدحام الذي يلف أسواقها، ولا سيما حول محال بيع الأطعمة التي افتتحت العام الفائت. يمكن القول إنه لم ينج منزل من التخريب في الغوطة، وتقدر إحصائيات أهلية نسبة العائدين إلى الغوطة بأقل من 50%، رغم أن تقديرات عدد السكان في مدينة دوما وحدها يصل إلى 250 ألف شخص. رمم بعضهم مزارعهم خلال الصيف الفائت، منتظرين عودة مواسم الخير، وخصوصاً أن معظم من بقي في المنطقة خلال الحرب اعتمد على الزراعة في عيشه، ما أثّر إيجاباً على تمسكه بالحياة. وحالياً، يزور سكان دمشق مزارعهم أو مزارع أقربائهم في الغوطة خلال العطل الأسبوعية.

تواضع عوامل الاستمرار
يقدر عديد طلاب المدارس في الغوطة الشرقية بما يقارب 65 ألفاً، رغم حاجة معظم المدارس إلى تأهيل وصيانة، ولا سيما بعدما تراجعت المنظمات الدولية عن وعودها بالمساعدة في تأهيل المدارس، بسبب العقوبات الأميركية. فيما زادت مساحة الأراضي المستثمرة على 28 ألف هكتار. وقارب عدد المزارعين العائدين إلى أعمالهم 17 ألفاً، وفق تقديرات رسمية. يؤكد أحد الفلاحين من أبناء كفربطنا، أن إنتاجه من الحليب بات يزيد على 2 طن أسبوعياً، ويوضح أن تسويق منتجاته الزراعية يتم في «سوق الهال» في دمشق، بعدما ولت أيام القذائف التي عطلت عمل السوق طويلاً. يلفت هيثم، وهو فلاح من المنطقة، إلى أن «الدولة وزعت آلاف غراس الأشجار المثمرة، ومنحاً من بذار القمح بمعدل 200 كلغ لكل فلاح، إضافة إلى 4 آلاف منحة لزراعة الخُضر مع شبكات الري». أما القطاع الصحي، فإن زيادة عدد سكان الغوطة (بفعل عودة أعداد جديدة من الأهالي)، فرضت حاجات صحية مضاعفة. ثمة وعود كثيرة بافتتاح مشاف، فيما يجري تقديم الخدمات حالياً ضمن العيادات المتنقلة.
تراجعت المنظمات الدولية عن وعودها بالمساعدة بسبب العقوبات الأميركية

معظم الاختصاصات الطبية عادت إلى العمل في المنطقة. مستشفيان خاصان يعملان بصورة طبيعية وهما «حمدان» و«اليمان»، إضافة إلى شعبة «الهلال الأحمر»، والمستوصفين الشرقي والغربي. كما عادت منظومات الإسعاف إلى العمل بوتيرة منتظمة، وكذلك أطباء الأسنان والصيادلة. أما الحالات الصعبة، كالاحتشاءات القلبية، فتنقل إلى مستشفيات العاصمة. وخصص بعض مشاهير الأطباء في دمشق يوماً في الأسبوع لأبناء دوما. يقول جابر، إن «مشفى دوما الذي كان الأهم في الغوطة، مدمّر بالكامل، من دون مؤشرات على إعادة تفعيله». يوضح الرجل أن خزان العاصمة السورية الزاخر باليد العاملة «يعاني نسبة بطالة لا يستهان بها. وعودة بعض الحرفيين، وأرباب مهن النجارة والحدادة والألمنيوم وغيرها، لم تؤثر كثيراً على الوضع المادي المتردي، في غياب المشاريع التنموية والتشجيعية اللازمة». أما محكمة دوما فقد حلّت مشاكل تثبيت الأولاد والزوجات، فيما بقي عدد المدرسين قليلاً، بانتظار تنفيذ وزير التربية وعوده التي أطلقها، خلال زيارته الأخيرة للمنطقة.

شهداء الغوطة على «جبهات الشمال»!
يمضي ملف «المصالحات» في المنطقة من دون خروقات أمنية، مع وجود حالات لأعمال جنائية، توجد بحق أصحابها ادعاءات شخصية، تُتابع قضائياً. يلفت ابن دوما، الباحث في الشؤون السياسية حسام طالب، إلى أن «بعض شبان الغوطة يعودون إلى الخدمة العسكرية»، ويؤكد التحاق 40 ألفاً من أبناء الغوطة بالجيش السوري، خلال الشهرين الفائتين. يوضح طالب أن «46 شهيداً من الغوطة قضوا في معارك أرياف حماة وإدلب واللاذقية، الأخيرة». أما «إعادة الإعمار»، فهي تتم بأيدي السكان، من خلال «ترميم المنشآت والمنازل بمجرد عودة أصحابها إليها»، وفقاً لما يقوله، فيما تقوم الدولة ببعض الإصلاحات في شبكة الكهرباء التي عادت إلى العمل بنسبة 70%. اللافت، هو الغياب شبه التام لنشاطات المنظمات الدولية، إذ وصل عدد سيارات «الصليب الأحمر» التي كانت تدخل مساعدات إلى الغوطة الشرقية إلى 30 سيارة يومياً خلال الحرب، بينما لم تدخل سوى 4 سيارات منذ عودة المنطقة إلى سيطرة الدولة! ومنذ الأشهر الأولى لعودة الغوطة إلى سيطرة دمشق، تعاون الأهالي مع الجهات الأمنية للكشف عن مقابر جماعية، ومستودعات أسلحة، كما للتخلص من مخلفات الحرب. يتم العثور على بعض العبوات، في مناطق نائية وغير مأهولة، أو في منشآت يدخل أصحابها إليها للمرة الأولى. فيما يلفت حسام طالب، إلى «تواصل بعض من خرج من الغوطة إلى ادلب، بفعل تحريض وتهويل المسلحين، مع أهاليهم في الغوطة بهدف العودة».