لأنّ كل ما يحيط بنا يتّسم بالقسوة، نتردد بدايةً في مغامرة حضور عرض مسرحي يحمل عنوان «درس قاسي» على مسرح القباني في دمشق. لا سيما أننا متخمون بالوجع، وأعصابنا لم تعد تحتمل آلاماً إضافية. كما أن تراجيديا حياتنا، نحن السوريين، مُكتملة الأركان، والمسرح بات يجرحنا أكثر، بسبب الجهل وقلّة الوعي بجماليات أبي الفنون. لكنّ للمخرج، سمير عثمان الباش، إغراءً خاصاً، وحظوة سابقة بعد عرض «المنتحر» عن نص لنيكولاي إردمن. كما أن اسم مؤلف «درس قاسٍ» فالنتين كراسنوغوروف، الجديد علينا، يثير الفضول لنعرفه ولو من خلال عمل واحد. ساعة وربع الساعة هي مدة العرض، كانت كافية لنتلذّذ بذكاء الكتابة للمسرح، والغوص في المجتمع، وتشريح آليات الإخضاع فيه، وفكفكة مفهوم الطاعة لصاحب السلطة، الذي حوَّل من خلال «تجربة نفسية ممسرحة» طالبَ علم نفس إلى قاتل، عبر الضغط عليه بوسائل مختلفة: مرّة بسطوة أستاذه، وأخرى بالمنافسة، وثالثة بترهيبه من الرُّسوب، وغير ذلك. نخرج من المسرحية، وبين أيدينا أداة للقياس، نرى من خلالها التجَّار من حولنا قَتَلة، لأنهم خاضعون بمجموعهم لضرورات الربح، وما يفرضه عليهم حيتان السوق ومضاربو العملة الصعبة. فلا يصعب عليهم «أخوهم في الإنسانية»، بل يجلدونه ببرود أعصاب، ومن دون أدنى إحساس بالذنب، لأنهم يقدسون «شرعةَ الأموال»، ولو كانت بضاعتهم هي «القرآن الكريم». وعلى سيرة المال، ووزارته التي تنتصب أمامنا شمال «السبع بحرات»، نفكّر كيف تحوَّل جزء كبير من سوريا إلى «مغارة لصوص»، وبأن «خازن بيت المال المعاصر» يخضع أيضاً لسياسات حكومة لا تضع في حسبانها رواتب الموظفين، التي باتت سقوفها أوطأ من الـ100 دولار، لـ«دكاترة الجامعات» وأصحاب الشهادات العليا. والأنكى، أنه متمسك بتعاليه على الواقع القاتم، يزيّن تصريحاته بتبريرات وردية، لا تُطعِم الفقراء خبزاً ولا تُعفيهم من جوع. ومثله الكثير من الوزراء القادرين على قتل الأمل برصاصة من الخلف، أو تسميم المُتمَسِّكين به؛ بوعودٍ مُتكرِّرة لا تُحقِّق سوى تمديد زمن نهب «ثروات الشعب». الشعب، الذي تحوَّل كثير من معلِّمي أبنائه إلى «قتلة» أيضاً، بعد أن باتوا «يُشغلون العدَّاد» ويُعطون طلابهم بقيمة الأوراق النقدية التي يتقاضونها عن الحصة الواحدة، لا أكثر ولا أقل. ومثلهم أطباء بالوا على قَسم أبقراط، وأقسم كل منهم بنفسه لا شريك لها. وأيضاً مُحامو الشياطين، وتجار الحرب والخونة، ومرافعاتهم لنُصرة «شريعة الغاب» أمام قضاة بعين واحدة، تُغشيها رزم نقود، وتدفعهم لاغتيال العدل، فلا يبقى منه سوى قصره المتهالك بجانب مقهى «شهود الزُّور»، الذين يرقصون على الدِّماء ذاتها، مع مجرمي التعهدات وأصحاب المكاتب العقارية، ومرتشي الوزارات، ووشِّيشَة الرقابة والتفتيش، ومعقّبي المعاملات، ومسؤولي الثقافة ومزوِّري وثائقها، وتجار الآثار، والمُتكسِّبين الجدد، ومُشرعي الخراب، وأصحاب المناقصات الزائدة عن الحاجة، والمتحكّمين بقوتِ المواطنين، ورعاة غيبياتهم، ومُكرِّسي عذاباتهم الدنيا، والمثقفين الطارئين، والمُنظِّرين، والمُحلِّلين الاستراتيجيين والتكتيكيين، والنُّقاد الفيسبوكيين، ومذيعات البرامج الصباحية النَّاعسات. حتى بائعو «اليانصيب» باتوا قتلة لأنهم يُعزّزون وهم الأمل ويُشعلون جذوته.
وحتى لا أُحاكَمَ بوهن نفسية الأمة، أو تحقير الإدارات العامة، أو على الأقل أغرم مالياً بحسب قانون الإعلام، أعترف منذ الآن بأنني قاتلٌ مثل كل من ذكرتهم، وأول من قتلت نفسي «الأمَّارة بالسُّوء»، التي باتت ترى أن سوريا بأكملها تعيش درساً قاسياً، قلَّ نظير قسوته في هذا العصر وفي كل الأزمنة. وعليه أوقِّع.