قريباً من باب شرقي، وتحديداً مقابل «مطرانية السريان الكاثوليك» شرق العاصمة دمشق، ثمة دكّان لحلّاق اسمه مهيب أبو نمر. يجذبك الرجل بطيبة ملامحه، وترحابه النابع من القلب بلا ادِّعاء. ما إن تجلس في انتظار دورك، حتى تلفتك علبتا كمان بجوارك، وتدفعاك إلى تأمُّل يديه، وهو يقصّ شعر أحدهم، أو يُشَذِّب لحية آخر، فتشعر بوجود شيء مختلف، ولا سيما أنه «حلَّاقٌ قليل الكلام»، فتبتهج بينك وبين نفسك قائلاً: «إنها أعجوبة».ينهي الحلاق عمله مع أحد زبائنه، ثم يفتح إحدى العُلَبتين. يحمل الكمان، يشدّ وتر قوسه، وبعد دوزنة الأوتار، تنطلق ارتجالات ساحرة على مقام النهوند. يتوقف بعدها عن العزف قليلاً، ليبدأ على مقام البيات، وتنويعات على الهُزام بلحنٍ «بليغيّ» وأغنية «إنت فين والحب فين». ندندن برفقة كمان الحلاّق، ما كتبه عبد الوهاب محمد: «حب إيه اللي إنت جاي تقول عليه...». يمر في بالنا شهاب أحمد بن بدير، المعروف بـ«البديري الحلاق»، ومذكراته المعنونة بـ«حوادث دمشق اليومية» التي كتبها بين عامي 1741-1762. نسأل مهيب: «البديري كان يجمع القصّ بمعنييه: الحلاقة، والسرد، كأنَّك تُشبهه؟»، يجيب وابتسامته على وجهه: «نوعاً ما، لكنني بدل أن أسرد بالكتابة، أعزف على كماني». ويضيف: «شغفي متوزِّع ما بين الحلاقة والعزف. بين المِقصّ وقوس الكمان، تتأقلم أصابع يدي اليمنى بتلقائية، بينما أصابع اليسرى تفعل الشيء ذاته بين زند الكمان ورأس الزبون».
نخبره بأن البديري، قارَبَ جداً فن المقامة الأدبي في كتابته الاستثنائية، ثم نسأل عن المقام الأقرب إلى روحه، فيقول: «لكل ساعةٍ ملائكتها، التي تفرض عليَّ مقامات عشقها، لكنني في الغالب كلثوميّ الهوى. أكثر ما أعزفه هو أغاني الست، التي تعلَّمتُ معظمها على يدي أستاذي ميشيل عوض، وليس هناك أوسع من طيف المقامات في أغنيات أم كلثوم التي لحّن لها الكبار». نُمازحه بالقول: «على كرسي البديري تساوى الأكابر والأعيان، والأشراف وأصحاب المراتب الاجتماعية والدينية والعسكرية، مع أصاغر القوم، كما يروي في مذكراته»، فيقاطِعنا ضاحكاً: «هذا أكثر من طبيعي، فالكل سواسية أمام من يمسك بيده موسى الحلاقة».