هنا، ليس في سوريا وحدها، بل في جوارها وفي معظم البلدان المصنّفة على أنها «نامية»، أو تلك التي لا تبشّر بالنمو يوماً، لا يتقاعد المرء عن العمل، مهما بلغ من العمر عتيّاً؛ وكيف يتقاعد الإنسان عن لقمة العيش؟! وما الذي يحجب عن السبعينيين ذلّ الحاجة، إن لم يواصلوا كدّهم في سبيل تأمين ما يسدّ رمقهم ومن يعيلون؟! هُنا، حيث لا مجال للراحة في آخر العمر، إذ أنه مثل أوّله «شقاءٌ بشقاء»، لا امتياز لكبار السنّ، كما لا استثناء للأطفال من مسح الأحذية وبيع العلكة والتسوّل سعياً إلى الرزق.
«الله يديم الصحة بس»
يعمل العم أبو ياسر سائقاً لسيارة خاصة يملكها أحد تجار «المصلحة»، ممن يشغّلون سيّارات تقلّ المسافرين بين دمشق وبيروت. يأخذ الرجل (69 عاماً) أجرة يومية مقبولة بالحد الأدنى، جراء هذا العمل. «باقي الأشغال ما بتجيب همها بهالإيام الصعبة»، يقول الرجل باعتزاز. يستطيع أبو ياسر، بالكاد، تأمين قوت يومه وإعالة زوجته وابنته العزباء، إضافة إلى ابنته الأُخرى الأرملة وطفليها. يقبّل أطراف أصابعه ويضعها على جبينه، ويقول: «الحمد لله ما عم نحتاج حدا». ويدعو بخوف واضح «الله يديم الصحة بس». نظر الرجل تراجع، بكارثية تأثير ذلك على استمراره في مهنته، إضافة إلى الأمراض التي يعتادها البشر مع تقدم السن كسكر الدم والضغط والقلب. لا يقتصر الأمر على ذلك، بل تتجلى التأثيرات المترتّبة على تقدم السن في التباطؤ باتخاذ زمام المبادرة، والتوجّس من التعامل مع الآخرين، خشية أي إذلال للكرامة، ولا سيما التهرب من الشجارات التي قد تواجه السائقين في بلدان لا تحتاج قيادة السيارة فيها إلى حد أدنى من الأخلاق، على عكس اللوحات والملصقات التوجيهية التي قد تضعها مديريات المرور على الجدران.
أبو ياسر غير مسجّل في التأمينات الاجتماعية، أسوة بمعظم العاملين في القطاع الخاص في سوريا، إذ يتهرب أرباب العمل من تسجيل الموظفين لديهم في التأمينات الاجتماعية لما يترتب على ذلك من رسوم إضافية شهرية، ما يضطرهم في أسوأ الأحوال إلى تسجيل بعض الموظفين في أدنى الرواتب الوظيفية المسموح بها، ليضعف إمكان حصول العاملين على تقاعد مقبول بعد سنوات طويلة من العمل.
معظم العاملين في القطاع الخاص غير مسجّلين في «التأمينات الاجتماعية»


تمضي الخالة أم محمود إلى عملها في تنظيف عيادة أحد الأطباء. تقطع مسافة طويلة كل يوم من بيتها المتواضع في إحدى ضواحي العاصمة السورية. تحرّك مكنستها بين أقدام المرضى الجالسين في غرفة الانتظار، مرتدية قلادة عليها صورة فتى عشريني لطيف الملامح، بخلفية العلم السوري. نعم، إنها «أم الشهيد»، التي تقترب من عمر السبعين ولا تملك من حيل كسب الرزق إلا أن تكافح بما تبقّى من صحتها لتأمين ما يردّ وجهها عن السؤال. لا ضمان شيخوخة ولا تقاعد لائق، إذ أن المرأة لم تعمل من قبل إلا في القطاع الخاص.

«أبناء الحكومة»
حال الموظفين الحكوميين ليس بأفضل، فتقاعدهم يبدأ إما بإتمام سن الستين ووصول الخدمة المحسوبة في المعاش إلى 15 عاماً، أو عبر نظام التقاعد المبكر الذي يمكن طلبه بعد بلوغ سنوات التوظيف 25 عاماً من دون التقيد بشرط السن. ويتم حساب المعاش التقاعدي اليوم على أساس (عدد سنوات الخدمة × متوسط أجر السنة الأخيرة وتقسيمه على 40). ويسري على متقاعدي القطاع العام ما يسري على الموظفين الحكوميين من معاناة تدني الأجور، الأمر الذي يجعلهم شبه متساوين في الظروف المعيشية الصعبة، رغم زيادات الرواتب التي نالوها مرات عدة، خلال السنوات الماضية.
تتحدث أم زياد حسن عن حظّها، باعتبارها موظفة حكومية متقاعدة على ملاك وزارة الصحة، إذ أنها نالت قبل عامين تعويض نهاية الخدمة والذي قدّرته بمبلغ 300 ألف ليرة (ما يعادل 600 دولار في حينها)، فيما عادت دورة المعاش الشهري إلى ما كانت عليها، بما تقدّره بـ 56 ألف ليرة (ما يعادل 55 دولاراً). وتلفت إلى أنها تحصل على راتبها من الصراف الآلي بشكل دوري، أسوة بكثير من زملائها، في حين يحصل متقاعدون آخرون على رواتبهم من مراكز معتمدة، وفق طوابير بحسب الدور، بشكل شخصي أو بالوكالة إلى أفراد عائلاتهم.

«لا تشكيلي ببكيلك»
حالات متكرّرة مشابهة للواقع السوري قد تواجهك ما إن تطأ قدماك محطة شارل حلو، في قلب العاصمة اللبنانية. العم أبو الياس، السائق اللبناني، الذي يجسّد مصاعب أشدّ وطأة في عمر التقاعد، يناهز الـ 75 عاماً، وقد خفّ سمعه، وكثرت أمراضه. يمسح زجاج سيارته الأمامي بيده أثناء القيادة تحت مطر بيروت الغزير، إذ أن سيارته القديمة غير مزوّدة بمكيّف للتدفئة أو التبريد. وهو يواجه خطر التقاط أي عدوى مرضيّة من زبائنه، مع ضعف مناعة جسده العجوز. يُقنّن الرجُل صرف المال المتبقي من تعويض نهاية خدمته، ويضطر إلى العمل لتأمين جزء من مصروفه اليومي. لا يعرف العطلة، لأن عطلته تعني خصم أجر يوم كامل بما يتطلبه من دواء وطعام ومصاريف أُخرى. يعرّف عن نفسه بوهن وطيبة: «أنا نصي سوري. أمي من ضهر صفرا (محافظة طرطوس)». ويستدرك قائلاً: «بلدنا منهار. حتى وضع سوريا الطالعة من الحرب أحسن من وضعنا. دخلك كيف الختيارية بيعيشو عندكن بسوريا. مش أحسن من هون؟». تتمنى لو تشرح له أن واقع هذا الحال في سوريا لا يتطلب شرحاً أكثر من القول: «لا تشكيلي ببكيلك».