كانت تدفعني رغبة الطفل في الفرجة. عبرتُ الساحة شبه الفارغة، وبدَت الحجارة المفتّتة أشبه بفُتات على مائدة غادرها طارِقوها، وعلى المصب وقفتُ وقد انفتحَ أمامي المشهد على عالم آخر، كأنه على شاشة تلفاز. كان يلوح من بعيد نهاية الطريق المغلق، لكننا انسقنا نحو يقين ذاك الجدار، ولم تكن المشكلة في توفر المعطيات، بل في مَوضَعتها.لقد أعلن الناطق باسم «المملكة الصحراوية» أن لا حرائق غابات لديهم. بسبب «السياسة الحكيمة»، ولأن الصحراء «الله حاميها»، يعني، لا داعيَ لقانون... وما شابه. تركت الناطق يجترّ عباراته، ودخلت حديقة، ثم دخل شابّان برفقة كلبين ضخمين أخذا بالتناوش، فغادر المعظم وانزوى الباقون، فكّرتُ بموقف الناس السلبي، إنه مرض «نقص المناعة الذاتية»، اعتاد الناس موقف المتفرّج... يتفرّجون على أنفسهم في مسيرة الانحطاط نحو الدرَك الأسفل.
المجتمعات تجمعات مأزومة استجَرّها منطق التداعي لتعيش ازدواجية «المركزية والدونية»، ولا تتجاوز متلازمة «التقليد والموضة»، فأين أنت يا «ولهلم رايش»؟. ألتقي بكثير من الناس المسالمين والجيدين. ما هذا التناقض؟، أليس افتقاد الناس إلى التضامن وروح المبادرة وإلى الشجاعة هو السبب في تغييبهم؟ أي عدم انتظام الوعي الاجتماعي المتحضّر ليشكّل قوة تغيير، كابِحاً ولاجِماً انفلات غريزة القطيع.
لم تكن «الصحوة» خلال عقود سوى نكوص ناتج عن فراغ حضاري. هل رأيت خروفاً يطلق النار على آخر لأنه يثغو بنغمة مغايرة؟ طروادة لم تحتج سوى حصان واحد للسقوط. فكيف بمن لديه قطيع داخل أسواره؟
في طريق عودتي مررت بغوّاصي حاويات الزبالة... فأدركتُ أننا بدأنا بالتحضّر. فهذا يدخل ضمن سياسة «ترشيد الاستهلاك»و«إعادة التدوير» ـــ وهذا غير تدوير الزوايا ـــ وسياسة «فرز النفايات»، ولا ينقصنا إلا نقابة. شرّ البلية ما يُضحِك. عبرت وجوهاً كثيرة. متشابهة، لا أعرف أحداً منها. وأدركت كم أنا غائب، لكني لم أحزن بل شعرت بالانعتاق، وسعيت إلى البيت... وبتعبير أدق: مكان إقامتي الجبرية، وتمنيت أن تطَبّق ضدي عقوبة قديمة، هي «النفي»، فأُنفى إلى ألمانيا مثلاً.
وتذكرت صديقاً قديماً، من ون رابط بين التداعيات. إنه الشاعر محمد سيدة، شاعر... لم تشيّعه القصائد. قال لي يوماً: لا أصدق أن عمري ثلاثة وستون عاماً. معقول؟
كان يتكلم بشعور طفل ولد بالأمس، وما زال الزمن مفتوحاً أمامه.
عرفته مصادفةً عن طريق شخص لم أره بعد ذلك، كان يعيش في حي محافظ على نمطٍ مغلقٍ من الحياة. لم يكن يخالط أحداً. كي تصل إلى منزله يجب أن تنزل بضع درجات، وتمرّ عبر حبل غسيل لا يرى الشمس. حجرة واسعة لا يكاد يضيئها النهار المتسلل من نافذة تمتد على حدود الرصيف، تعلوها درجات المحالّ في الخارج. حجرة مليئة بالكتب والمجلات القديمة، ومجموعات من الطوابع التي كانت هواية له في ما مضى، وبعض صور قديمة، وعند النافذة عصفورٌ في قفص.
قال: «هذه صورة ابنة أختي وهي صغيرة. كنت أحبها كثيراً، لكني الآن لا أراها أبداً (كان يتحدث بخيبة وغضب) لقد تزوجتْ وتحجّبتْ».
كان صباح يوم جمعة حين طرقت بابه. لم يكن هناك، سألت أحد الجيران فقال: من عادته أن يذهب إلى سوق الجمعة. عدت إليه ظهراً ولم يكن هناك فتركت ورقة على بابه أنبئه بمروري، لكنه لم يقرأ الورقة… لقد مات.
مَرَّت بضعة أيام عرفت بعدها ما جرى.
في «سوق الجمعة»... سقط سهواً رجل متقدم في الانتظار. ينتعل «شحّاطة» وبلا هوية. بقي في برّاد المشفى أياماً من دون أن يفتقده أحد. أكثر الناس لم يتغير في حياتهم أي شيء، حتى الذين عرفوا بموتهِ/ وأظنه الوحيد الذي لم يدرك أنه مات... وهو في انتظار الحياة التي لم تبدأ بعد.
بعد سنوات عثرتُ على بعض كتبه على بسطة في مدينة أخرى. ومن حين إلى آخر كنت أفكر: كم انتظر العصفور المعلّق عند نافذة الرصيف قبل أن يذوي؟